للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الْبَقَرَةِ: ١١٦] وَقَوْلُهُ: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آلِ عِمْرَانَ: ٨٣] .

وَأما قوله تَعَالَى: طَوْعاً وَكَرْهاً فَالْمُرَادُ: أَنَّ بَعْضَ الْحَوَادِثِ مِمَّا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَى حُصُولِهِ كَالْحَيَاةِ وَالْغِنَى، وَبَعْضَهَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْعَمَى وَالْحُزْنِ وَالزِّمَانَةِ وَجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَالْكُلُّ حَاصِلٌ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالْمُدَافَعَةِ.

ثم قال تَعَالَى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، كُلُّ شَخْصٍ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا فَإِنَّ ظِلَّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ، وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ لِلَّهِ كَرْهًا وَهُوَ كَارِهٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْكَافِرَ يَسْجُدُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَظِلُّهُ يَسْجُدُ لِلَّهِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلظِّلَالِ عُقُولًا وَأَفْهَامًا تَسْجُدُ بِهَا وَتَخْشَعُ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْجِبَالِ أَفْهَامًا حَتَّى اشْتَغَلَتْ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَتَّى ظَهَرَ أَثَرُ التَّجَلِّي فِيهَا كَمَا قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ مَيَلَانُهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَطُولُهَا بِسَبَبِ انْحِطَاطِ الشَّمْسِ وَقِصَرُهَا بِسَبَبِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، فَهِيَ مُنْقَادَةٌ مُسْتَسْلِمَةٌ فِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا وَمَيْلِهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ وَإِنَّمَا خُصِّصَ الْغُدُوُّ وَالْآصَالُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الظِّلَالَ إِنَّمَا تَعْظُمُ وَتَكْثُرُ في هذين الوقتين.

[[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بين أن كل من في السموات وَالْأَرْضِ سَاجِدٌ لَهُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ خَاضِعًا لَهُ، عَادَ إِلَى الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ جَوَابًا يُقِرُّ بِهِ المسؤول وَيَعْتَرِفُ بِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ أَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الذَّاكِرَ لِهَذَا الْجَوَابِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَهُ الْبَتَّةَ وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّبُّ لِكُلِّ الكائنات قال: قل لهم فلم اتخذتهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَهِيَ جَمَادَاتٌ وَهِيَ لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَمَّا كَانَتْ عَاجِزَةً عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنْفُسِهَا وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهَا، فَبِأَنْ تَكُونَ عَاجِزَةً عَنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهَا وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ غَيْرِهَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ عِبَادَتُهَا مَحْضَ الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْحَجَّةَ الظَّاهِرَةَ بَيَّنَ أَنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة يكون الأعمى وَالْعَالِمَ بِهَا كَالْبَصِيرِ، وَالْجَهْلُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ كَالظُّلُمَاتِ، وَالْعِلْمُ بِهَا كَالنُّورِ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُسَاوِي الْبَصِيرَ، وَالظُّلْمَةَ لَا تُسَاوِي النُّورَ كَذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْجَاهِلَ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ لَا يُسَاوِي الْعَالِمَ بِهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمْرٌو عَنْ عَاصِمِ يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْبَيَانَ فَقَالَ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يَعْنِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ لَيْسَ لَهَا خَلْقٌ يُشْبِهُ خَلْقَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا إِنَّهَا تُشَارِكُ اللَّهَ فِي الْخَالِقِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُشَارِكَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ بالضرورة أن

<<  <  ج: ص:  >  >>