للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ: وأُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبَرُهُ كَقَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ... أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرَّعْدِ: ٢٥] وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَشَرْطُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ، وَجَزَاؤُهَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى قُيُودٍ. أَمَّا الْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ فَهِيَ تِسْعَةٌ:

الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الَّذِي عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ حِينَ كَانُوا فِي صُلْبِ آدَمَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] . وَالثَّانِي:

أَنَّ الْمُرَادَ بِعَهْدِ اللَّهِ كُلُّ أَمْرٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالتَّغْيِيرَ. وَالْآخَرُ: الَّتِي أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهَا الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَبَيَّنَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ كُلُّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَهْدِ عَلَى الْحُجَّةِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وُجُوبُهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ رُبَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ فَلَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنْ إِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ. وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُوفِيًا لِلْعَهْدِ إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ.

الْقَيْدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ قَرِيبٌ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ وُجُودُهُ لَزِمَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَدَمُهُ، فَهَذَانِ الْمَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ إِلَّا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَنْقُضَ الْمِيثَاقَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ أَجَلِّ مَرَاتِبِ السَّعَادَةِ.

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لمن عَهْدَ لَهُ»

وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيثَاقَ مَا وَثَّقَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَالْحَاصِلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهِ ابْتِدَاءً. وَقَوْلَهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا الْتَزَمَهُ العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ: عَهْدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِيثَاقِ: الْمَوَاثِيقُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ظُهُورِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ وَالشَّرَائِعِ،

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ فَغَدَرَ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ»

وَعَنْهُ عليه السلام: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى عَهْدًا ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا اسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَظَلَمَهُ أَجْرَهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَاسْتَرَقَّ الْحُرَّ وَأَكَلَ ثَمَنَهُ»

وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَمَلِكِ الرُّومِ عَهْدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ وَيَنْقُضَ الْعَهْدَ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ يَقُولُ: وَفَاءٌ بالعهد لا

<<  <  ج: ص:  >  >>