للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٧]]

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)

اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا فَأْتِنَا بِآيَةٍ وَمُعْجِزَةٍ قَاهِرَةٍ ظَاهِرَةٍ مِثْلِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

فَأَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَاتٍ ظَاهِرَةً وَمُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً، وَلَكِنَّ الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ، فَأَضَلَّكُمْ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَهَدَى أَقْوَامًا آخَرِينَ إِلَيْهَا، حَتَّى عَرَفُوا بِهَا صِدْقَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْثِيرِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَلَامٌ يَجْرِي مَجْرَى التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ الْمُتَكَاثِرَةَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَصِيرَ مُشْتَبِهَةً عَلَى الْعَاقِلِ، فَلَمَّا طَلَبُوا بَعْدَهَا آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ مَوْضِعًا لِلتَّعَجُّبِ وَالِاسْتِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: مَا أَعْظَمَ عِنَادَكُمْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ مَنْ كَانَ عَلَى صِفَتِكُمْ مِنَ التَّصْمِيمِ وَشِدَّةِ الشَّكِيمَةِ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اهْتِدَائِكُمْ وَإِنْ أُنْزِلَتْ كُلُّ آيَةٍ وَيَهْدِي مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ صِفَتِكُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا سَائِرَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ لَا فَائِدَةَ فِي ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ فَلَوْ حَصَلَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ وَلَمْ تَحْصُلِ الْهِدَايَةُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَوْ حَصَلَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ وَحَصَلَتِ الْهِدَايَةُ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَلَا تَشْتَغِلُوا بِطَلَبِ الْآيَاتِ وَلَكِنْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَاتِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ فَلَسْتُمْ مِمَّنْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عَنِ الثَّوَابِ: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أَيْ يَهْدِي إِلَى جَنَّتِهِ مَنْ تَابَ وَآمَنَ قَالَ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْهُدَى هُوَ الثَّوَابُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: مَنْ أَنابَ أَيْ تَابَ/ وَالْهُدَى الَّذِي يَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِ هُوَ الثَّوَابُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُضِلُّ عَنِ الثَّوَابِ بِالْعِقَابِ، لَا عَنِ الدِّينِ بِالْكُفْرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ خَالَفَنَا. هَذَا تَمَامُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ وَقَوْلُهُ: (أَنَابَ) أَيْ أَقْبَلَ إِلَى الْحَقِّ وحقيقته دخل في نوبة الخير.

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَنابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ خَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: ٢] وَالْوَجَلُ ضِدَّ الِاطْمِئْنَانِ، فَكَيْفَ وَصَفَهُمْ هَاهُنَا بِالِاطْمِئْنَانِ؟

وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا الْعُقُوبَاتِ وَلَمْ يَأْمَنُوا مِنْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى الْمَعَاصِي فَهُنَاكَ وَصَفَهُمْ بِالْوَجَلِ، وإذا ذكروا وعده بِالثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ، سَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا يُنَافِي الْآخَرَ، لِأَنَّ الْوَجَلَ هُوَ بِذِكْرِ الْعِقَابِ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِذِكْرِ الثَّوَابِ، وَيُوجَدُ الْوَجَلُ فِي حَالِ فِكْرِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، وَتُوجَدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>