للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَيْأَسِ

فَقَالَ: أَظُنُّ أَنَّ الْكَاتِبَ كَتَبَهَا وَهُوَ نَاعِسٌ إِنَّهُ كَانَ فِي الْخَطِّ يَأْسَ فَزَادَ الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرىء يَيْأَسُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْقُرْآنِ مَحَلًّا لِلتَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : مَا هَذَا الْقَوْلُ وَاللَّهِ إِلَّا فِرْيَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوْ يَئِسَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ كَوْنِهِ وَالْمُلَازَمَةُ تُوجِبُ حُسْنَ الْمَجَازِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْيَأْسِ لِإِرَادَةِ الْعِلْمِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَكَلِمَةُ «لَوْ» تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ تَارَةً يَحْمِلُونَ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ/ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ، وَتَارَةً يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُجْرِي الْكَلَامَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ هِدَايَةَ جَمِيعِ النَّاسِ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ هِدَايَةَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ فَلَا يَكُونُ شَائِيًا لِهِدَايَةِ جَمِيعِ النَّاسِ.

وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ المسألة قَدْ سَبَقَ مِرَارًا.

أما قوله تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا فِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّدِيدَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْجَبَ حُصُولَ الْغَمِّ فِي قَلْبِ الْكُلِّ، وَقِيلَ: أَرَادَ بَعْضَ الْكُفَّارِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مُعَيَّنُونَ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ الْكُفَّارِ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَهُوَ ذَلِكَ الْجَمْعُ الْمُعَيَّنُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا مِنْ كُفْرِهُمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ قَارِعَةٌ دَاهِيَةٌ تَقْرَعُهُمْ بِمَا يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ صُنُوفِ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ الْقَارِعَةُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَيَفْزَعُونَ وَيَضْطَرِبُونَ وَيَتَطَايَرُ إِلَيْهِمْ شَرَارُهَا وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ شُرُورُهَا حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ مَوْتُهُمْ أَوِ الْقِيَامَةُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَلَا يَزَالُ كُفَّارُ مَكَّةَ تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّكْذِيبِ قَارِعَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَزَالُ يَبْعَثُ السَّرَايَا فَتُغِيرُ حَوْلَ مَكَّةَ وَتَخْتَطِفُ مِنْهُمْ وَتُصِيبُ مَوَاشِيَهُمْ، أَوْ تَحِلُّ أنت يا محمد قريبا من دارهم بِجَيْشِكَ كَمَا حَلَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُ ذَلِكَ.

ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ عَنْهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ الْخُلْفَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي مِيعَادِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِي حَقِّ الْكُفَّارِ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، إِذْ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَعِيدٍ وَرَدَ فِي حَقِّ الْفُسَّاقِ.

وَجَوَابُنَا: أَنَّ الْخُلْفَ غَيْرٌ، وَتَخْصِيصَ الْعُمُومِ غَيْرٌ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْخُلْفِ، وَلَكِنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَاتِ الْوَعِيدِ بِالْآيَاتِ الدالة على العفو.

<<  <  ج: ص:  >  >>