للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الرِّزْقِ مَمْدُوحٌ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْإِنْفَاقِ مِنَ الْحَرَامِ بِمَمْدُوحٍ فَيَنْتُجُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِرَارًا.

المسألة الْخَامِسَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: سِرًّا وَعَلانِيَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَالِ أَيْ ذَوِي سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ بِمَعْنَى مُسِرِّينَ وَمُعْلِنِينَ. وَثَانِيهَا: عَلَى الظَّرْفِ أَيْ وَقْتَ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ. وَثَالِثُهَا: عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِنْفَاقَ سِرٍّ وَإِنْفَاقَ عَلَانِيَةٍ وَالْمُرَادُ إِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ وَإِعْلَانُ الْوَاجِبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ قَالَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: البيع هاهنا الْفِدَاءُ وَالْخِلَالُ الْمُخَالَّةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ خَالَلْتُ خِلَالًا وَمُخَالَّةً، وَهِيَ الْمُصَادَقَةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا شِرَاءٌ وَلَا مُخَالَّةٌ وَلَا قَرَابَةٌ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَجِدُوا ثَوَابَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي لَا تَحْصُلُ فِيهِ مُبَايَعَةٌ وَلَا مُخَالَّةٌ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٤] .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَفَى الْمُخَالَّةَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَهَا فِي قَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] .

قُلْنَا: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ الْمُخَالَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ الْمُخَالَّةِ بِسَبَبِ مَيْلِ الطَّبِيعَةِ وَرَغْبَةِ النَّفْسِ، وَالْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الْمُخَالَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى حُصُولِ الْمُخَالَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّهُ أعلم.

[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي وَصْفِ أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت الْعُمْدَةُ الْعُظْمَى وَالْمَنْزِلَةُ الْكُبْرَى فِي حُصُولِ السَّعَادَاتِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَاتِهِ وَبِصِفَاتِهِ، وَفِي حُصُولِ الشَّقَاوَةِ فِقْدَانَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، لَا جَرَمَ خَتَمَ اللَّهُ تَعَالَى وَصْفَ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وذكر هاهنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها: خلق السموات. وَثَانِيهَا: خَلْقُ الْأَرْضِ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَثَالِثُهَا: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.

وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ.

وَسَادِسُهَا وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. وَثَامِنُهَا وَتَاسِعُهَا: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَعَاشِرُهَا: قَوْلُهُ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَهَذِهِ الدَّلَائِلُ الْعَشَرَةُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهَا وَتَفْسِيرُهَا مرارا وأطوارا ولا بأس بأن نذكر هاهنا بعض الفوائد. [الحجة الأولى والثانية قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ] فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلَهُ: الَّذِي خَلَقَ خَبَرُهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>