للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهِ، وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟ فَقَالَ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ وَلَوْ أَنَّهَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ وَلَا تَتَنَاوَلُهُ إِلَى أَنْ تَمُوتَ/ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ.

وَالْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ التَّوْحِيدَ، وَيَصُونَهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] .

وَالْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فَقَوْلُهُ:

مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُ بِوادٍ هُوَ وَادِي مَكَّةَ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أَيْ لَيْسَ فيه شيء من زرع، كقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزُّمَرِ: ٢٨] بِمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِيهِ اعْوِجَاجٌ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، وَذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِ الْمُحَرَّمَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُ وَالتَّهَاوُنَ بِهِ، وَجَعَلَ مَا حَوْلَهُ حَرَمًا لِمَكَانِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُمْتَنِعًا عَزِيزًا يَهَابُهُ كُلُّ جَبَّارٍ كَالشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُجْتَنَبَ. الثَّالِثُ:

سُمِّيَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الْحُرْمَةِ لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حَرُمَ عَلَى الطُّوفَانِ أَيِ امْتَنَعَ مِنْهُ كَمَا سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْهُ فَلَمْ يُسْتَعْلَ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَمَرَ الصَّائِرِينَ إِلَيْهِ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. السَّادِسُ: حَرَّمَ مَوْضِعَ البيت حين خلق السموات وَالْأَرْضَ وَحَفَّهُ بِسَبْعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي بَنَاهُ آدَمُ، فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. السَّابِعُ: حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَقْرَبُوهُ بِالدِّمَاءِ وَالْأَقْذَارِ وَغَيْرِهَا:

رُوِي أَنَّ هَاجَرَ كَانَتْ أَمَةً لِسَارَّةَ فَوَهَبَتْهَا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتْ سَارَّةُ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لِي وَلَدًا مِنْ خَلِيلِهِ فَمَنَعْنِيهِ وَرَزَقَهُ خَادِمَتِي، وَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: أَبْعِدْهُمَا مِنِّي فَنَقَلَهُمَا إِلَى مَكَّةَ وَإِسْمَاعِيلُ رَضِيعٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَتْ هَاجَرُ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَقَالَ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ إِنَّهَا عَطِشَتْ وَعَطِشَ الصَّبِيُّ فَانْتَهَتْ بِالصَّبِيِّ إِلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَضَرَبَ بِقَدَمِهِ فَفَارَتْ عَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْلَا أَنَّهَا عَجِلَتْ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَادَ بَعْدَ كِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَاشْتَغَلَ هُوَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ بِرَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ.

قَالَ الْقَاضِي: أَكْثَرُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْقُلَ وَلَدَهُ إِلَى حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَاءَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَهُمَا إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ لِأَجْلِ قَوْلِ سَارَّةَ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ هُنَاكَ مَاءٌ وَطَعَامٌ، وَأَقُولُ: أَمَّا ظُهُورُ مَاءِ زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصا لإسمعيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام.

ثم قال: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْكَنْتُ أَيْ أَسْكَنْتُ قَوْمًا مِنْ ذُرِّيَّتِي، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَوْلَادُهُ بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَا زَرْعَ فِيهِ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ.

ثم قال: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هَوِيَ يَهْوِي هَوِيًّا بِالْفَتْحِ إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ. وَقِيلَ: تَهْوِي إِلَيْهِمْ تُرِيدُهُمْ، وَقِيلَ: تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: تَنْحَطُّ إِلَيْهِمْ وَتَنْحَدِرُ إِلَيْهِمْ وَتَنْزِلُ، يُقَالُ: هَوِيَ الْحَجَرُ مِنْ رَأَسِ الْجَبَلِ يَهْوِي إِذَا انْحَدَرَ وَانْصَبَّ، وَهَوِيَ الرَّجُلُ إِذَا انْحَدَرَ مِنْ رَأَسِ الْجَبَلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>