للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَدْرَ مُجْمَلٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ،

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَقَالَ: هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ،

وَالسَّبَبُ فِي وُقُوعِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، وَأَمَّا السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ بِمَعْنَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا يُثَنَّى بَعْدَهَا مَا يُقْرَأُ مَعَهَا. الثَّالِثُ:

سُمِّيَتْ آيَاتُ الْفَاتِحَةِ مَثَانِيَ، لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ قِسْمَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»

وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ. الرَّابِعُ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا قِسْمَانِ ثَنَاءٌ وَدُعَاءٌ، وَأَيْضًا النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْهَا حَقُّ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ الدُّعَاءُ. الْخَامِسُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ فِي أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. السَّادِسُ: سُمِّيَتْ بِالْمَثَانِي، لِأَنَّ كَلِمَاتِهَا مُثَنَّاةٌ مِثْلُ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٣، ٥- ٧] وَفِي قِرَاءَةِ عُمَرَ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِّينَ) . السَّابِعُ:

قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتِ الْفَاتِحَةُ بِالْمَثَانِي لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ وَمُلْكُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي عَلَى سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَهَهُنَا أَحْكَامٌ:

الحكم الْأَوَّلُ:

نَقَلَ الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ رَأَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ حُجَّتَهُ فِيهِ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاتِحَةُ. ثُمَّ/ إِنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبْعُ الْمَثَانِي غَيْرَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ: بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْكُرَ الْكُلَّ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهِ ذِكْرَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَأَقْسَامِهِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الْأَقْسَامِ. أَمَّا إِذَا ذُكِرَ شَيْءٌ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مُغَايِرًا لِلْمَذْكُورِ ثانيا، وهاهنا ذَكَرَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْمُغَايَرَةِ.

وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ مُغَايِرٌ لِمَجْمُوعِهِ، فَلِمَ لَا يَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي حُسْنِ الْعَطْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الحكم الثَّانِي:

أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي هُوَ الْفَاتِحَةُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِفْرَادَهَا بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَهَا مَرَّتَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ طُولَ عُمْرِهِ، وَمَا أَقَامَ سُورَةً أُخْرَى مَقَامَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي صِلَاتِهِ وَأَنْ لَا يُقِيمَ سَائِرَ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَقَامَهَا وَأَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ هَذَا الْإِبْدَالِ فَإِنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا وَاللَّهُ أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>