للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ جَلِيٌّ مُتَبَادِرٌ إِلَى الْعُقُولِ فَتَرَكُوهُ لِهَذَا الْعُذْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبَعْثِ مُمْكِنٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:

الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَعْدٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ تَحْقِيقُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ وَعْدًا حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَبَيْنَ الْعَاصِي، وَبَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَبَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِهَا وَتَقْرِيرِهَا فِي سُورَةِ يُونُسَ.

وَالوجه الثَّانِي: فِي بَيَانِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِلْأَشْيَاءِ وَمُكَوِّنًا لَهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُكَوِّنُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَيْسَ لِقُدْرَتِهِ دَافِعٌ وَلَا لِمَشِيئَتِهِ مَانِعٌ فَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا النَّفَاذِ الْخَالِي عَنِ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدَرَ عَلَى الْإِيجَادِ فِي الِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي الْإِعَادَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ والبعث والقيامة حق وصدق، والقوم إِنَّمَا طَعَنُوا فِي صِحَّةِ النُّبُوَّةِ بِنَاءً عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الطَّعْنُ بَطَلَ أَيْضًا طَعْنُهُمْ فِي النُّبُوَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ حِكَايَةٌ عَنِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَقَوْلُهُ: بَلى إِثْبَاتٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَعْدًا حَقًّا لَا خُلْفَ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَبْعَثُهُمْ دَلَّ عَلَى قَوْلِهِ وَعَدَ بِالْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْبَعْثِ أَيْ بَلَى يَبْعَثُهُمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا أَقْسَمُوا فِيهِ.

ثم قَالَ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ: كُنْ إِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَعْدُومِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْمَوْجُودِ كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا تَمْثِيلٌ لِنَفْيِ الْكَلَامِ وَالْمُعَايَاةِ وَخِطَابٌ مَعَ الْخَلْقِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ، لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ كَائِنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ الْإِسْرَاعِ، وَلَوْ أَرَادَ خَلْقَ الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات وَالْأَرْضِ فِي قَدْرِ لَمْحِ الْبَصَرِ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قَوْلُنا مُبْتَدَأٌ وأَنْ نَقُولَ خبره وكُنْ فَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ أَيْ إِذَا أَرَدْنَا حُدُوثَ شَيْءٍ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ نَقُولَ لَهُ احْدُثْ فَيَحْدُثُ عَقِيبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ.

المسألة الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ فَيَكُونُ بِنَصْبِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ وَجْهُهَا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْ نَقُولَ لَهُ كَلَامًا تَامًّا ثُمَّ يُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا يَكْفِيهِ إِنْ أُمِرَ فَيَفْعَلُ فَتَرْفَعُ قَوْلَكَ فَيَفْعَلُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وأم الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ، وَالْمَعْنَى: أَنْ نَقُولَ كُنْ فَيَكُونَ هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>