للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ أَتْبَعَهُ بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الذِّكْرِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ أَهْلَ التَّوْرَاةِ، وَالذِّكْرُ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٥] يَعْنِي التَّوْرَاةَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكُتُبِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَعَانِيَ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بَشَرٌ، وَالثَّالِثُ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، إِذِ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ ذَاكِرًا لَهُ. وَالرَّابِعُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ سَلُوا كُلَّ مَنْ يُذْكَرُ بِعِلْمٍ وَتَحْقِيقٍ. وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ وَاحِدًا مِنَ الْبَشَرِ إِنَّمَا تَمَسَّكَ بِهَا كُفَّارُ مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَصْحَابُ الْعُلُومِ وَالْكُتُبِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يَرْجِعُوا فِي هَذِهِ المسألة إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ ضَعْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَسُقُوطَهَا، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ تَزْيِيفِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَبَيَانِ سُقُوطِهَا.

المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ؟ مِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِالْجَوَازِ/ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ عَالِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُجْتَهِدِ الْآخَرِ الَّذِي يكون عالما لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْجَوَازِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: الْمُكَلَّفُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ وَاقِعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُكْمِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حُجَّةً لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْعَالِمِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِنْبَاطُ ذَلِكَ الحكم بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَجَوَابُهُ: أن ثَبَتَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْإِجْمَاعُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثم قال تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْبَاءِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ صِلَةَ مَا قَبْلَ إِلَّا لَا يَتَأَخَّرُ إِلَى بَعْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ هُوَ مَجْمُوعُ مَا قَبْلَ إِلَّا مَعَ صِلَتِهِ، فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الْمَجْمُوعُ مَذْكُورًا بِتَمَامِهِ امْتَنَعَ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ:

بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَثْنَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَالِبَ لِهَذَا الْبَاءِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ بِزَيْدٍ مَا مَرَّ إِلَّا أَخُوكَ ثُمَّ يَقُولُ مَرَّ بِزَيْدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَالتَّقْدِيرُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ لَفْظَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا تَكَامَلَ بِهِ الرِّسَالَةُ، لِأَنَّ مَدَارَ أَمْرِهَا عَلَى الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ وَهِيَ الْبَيِّنَاتُ وَعَلَى التَّكَالِيفِ الَّتِي يُبَلِّغُهَا الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْعِبَادِ وَهِيَ الزُّبُرُ.

ثم قال تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل:

<<  <  ج: ص:  >  >>