للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا فَهْمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُضَافًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لَأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا مِنْ رِزْقِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الْإِضْمَارِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، وَلَا يَعْلَمُونَ فِي طَاعَتِهِ نَفْعًا وَلَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ نَصِيبًا. وَثَانِيهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهِيَّتَهَا. وَثَالِثُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ فِي صَيْرُورَتِهَا مَعْبُودَةً. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ اسْتِحْقَارُ الْأَصْنَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِقِلَّتِهَا لَا تَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ النَّصِيبِ احْتِمَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَنَصِيبًا إِلَى الْأَصْنَامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ، الْبَحِيرَةُ، وَالسَّائِبَةُ، وَالْوَصِيلَةُ، وَالْحَامُ، وهو قَوْلُ الْحَسَنِ.

وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا اعْتَقَدُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَشْيَاءُ أُخْرَى فكذا هاهنا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ هذا المذهب قال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة/ بمنزلة قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحِجْرِ: ٩٢، ٩٣] وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ مِنْهُ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، وَفِي وَقْتِ هَذَا السُّؤَالِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ السُّؤَالُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المسألة فَهُوَ إِلَى الْوَعِيدِ أَقْرَبُ.

النوع الثَّانِي: مِنْ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] كَانَتْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ تَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. أَقُولُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا كَانُوا مُسْتَتِرِينَ عَنِ الْعُيُونِ أَشْبَهُوا النِّسَاءَ فِي الِاسْتِتَارِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْبَنَاتِ. وَأَيْضًا قُرْصُ الشَّمْسِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَتِرِ عَنِ الْعُيُونِ بِسَبَبِ ضَوْئِهِ الْبَاهِرِ وَنُورِهِ الْقَاهِرِ فَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ التَّأْنِيثِ فَهَذَا مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِي سَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ وَالْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ، وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ سُبْحانَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ.

وَالثَّانِي: تَعْجِيبُ الْخَلْقِ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ الْقَبِيحِ، وَهُوَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِالْأُنُوثَةِ ثُمَّ نِسْبَتُهَا بِالْوَلَدِيَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَالثَّالِثُ: قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ مَعَاذَ اللَّهِ وَذَلِكَ مُقَارِبٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

ثم قال تَعَالَى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِي «مَا» وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلَ: أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: سُبْحانَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ يَعْنِي الْبَنِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] ثُمَّ اخْتَارَ الوجه الثَّانِيَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ نَصِيبًا لَقَالَ وَلِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ، لِأَنَّكَ تَقُولُ جَعَلْتَ لِنَفْسِكَ كذا وكذا، ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>