للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[في قوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ إِخْرَاجَ الْأَلْبَانِ مِنَ النِّعَمِ، وَإِخْرَاجَ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ دَلَائِلُ قَاهِرَةٌ، وَبَيِّنَاتٌ بَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا مُخْتَارًا حَكِيمًا، فَكَذَلِكَ إِخْرَاجُ الْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَبُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ يُقَالُ وَحَى وَأَوْحَى، وَهُوَ الْإِلْهَامُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِلْهَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَرَّرَ فِي أَنْفُسِهَا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي تَعْجِزُ عَنْهَا الْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَبْنِي الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا، وَالْعُقَلَاءُ مِنَ الْبَشَرِ لَا يُمْكِنُهُمْ بِنَاءُ مِثْلِ تِلْكَ الْبُيُوتِ إِلَّا بِآلَاتٍ وَأَدَوَاتٍ مِثْلَ الْمِسْطَرِ وَالْفِرْجَارِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْهَنْدَسَةِ أَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ لَوْ كَانَتْ مُشَكَّلَةً بِأَشْكَالٍ سِوَى الْمُسَدَّسَاتِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بِالضَّرُورَةِ فِيمَا بَيْنَ تِلْكَ الْبُيُوتِ فُرَجٌ خَالِيَةٌ ضَائِعَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْبُيُوتُ مُسَدَّسَةً فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَهَا فُرَجٌ ضَائِعَةٌ، فَإِهْدَاءُ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الضَّعِيفِ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَالدَّقِيقَةِ اللَّطِيفَةِ/ مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّحْلَ يَحْصُلُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاحِدٌ يَكُونُ كَالرَّئِيسِ لِلْبَقِيَّةِ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ يَكُونُ أَعْظَمَ جُثَّةً مِنَ الْبَاقِي، وَيَكُونُ نَافِذَ الحكم عَلَى تِلْكَ الْبَقِيَّةِ، وَهُمْ يَخْدِمُونَهُ وَيَحْمِلُونَهُ عِنْدَ الطَّيَرَانِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الْأَعَاجِيبِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا إِذَا نَفَرَتْ مِنْ وَكْرِهَا ذَهَبَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّةِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَإِذَا أَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضَرَبُوا الطُّنْبُورَ وَالْمَلَاهِي وَآلَاتِ الْمُوسِيقَى، وَبِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ يَقْدِرُونَ عَلَى رَدِّهَا إِلَى وَكْرِهَا، وَهَذَا أَيْضًا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ، فَلَمَّا امْتَازَ هَذَا الْحَيَوَانُ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَزِيدِ الذَّكَاءِ وَالْكِيَاسَةِ، وَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْكِيَاسَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ وَهِيَ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْوَحْيِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهَا: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ وَرَدَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: ٥١] وَفِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [الْمَائِدَةِ: ١١١] وَبِمَعْنَى الْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: ٧] وَفِي حَقِّ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَعْنًى خَاصٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ نَحْلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَحَلَ النَّاسَ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ النَّحْلُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَلِذَلِكَ أَنَّثَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كَلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا الْهَاءُ.

ثم قال تَعَالَى: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنِ اتَّخِذِي هِيَ «أَنِ» الْمُفَسِّرَةُ، لِأَنَّ الْإِيحَاءَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَقُرِئَ: بِيُوتًا بِكَسْرِ الْبَاءِ وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أَيْ يَبْنُونَ وَيَسْقُفُونَ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا، ضَمُّ الرَّاءِ وَكَسْرُهَا مِثْلُ يَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّحْلَ نَوْعَانِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>