للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]

وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ بَقِيَّةِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الشُّرَكَاءِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِعَادَتِهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُشَاهِدُونَهَا فِي غَايَةِ الذِّلَّةِ وَالْحَقَارَةِ. وَأَيْضًا أَنَّهَا تُكَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِكَوْنِهِمْ شُرَكَاءَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوْلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِأَنَّهَا شُرَكَاءُ اللَّهِ. وَالثَّانِي:

أَنَّ الْكُفَّارَ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ دَعَوُا الْكُفَّارَ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءِ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إِلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرَكَاءِ الشَّيَاطِينَ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَعَلَى خَلْقِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تِلْكَ الشُّرَكَاءَ قَالُوا: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَتُهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟

قُلْنَا: فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَقْصُودُ الْمُشْرِكِينَ إِحَالَةُ الذَّنْبِ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُنْقِصُ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَعِنْدَ هَذَا تُكَذِّبُهُمْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ. قَالَ الْقَاضِي:

هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ وَأَنَّهُ لَا نُصْرَةَ وَلَا فِدْيَةَ وَلَا شَفَاعَةَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ تَعَجُّبًا مِنْ حُضُورِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا وَاعْتِرَافًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي عِبَادَتِهَا. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ الْأَصْنَامَ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَقَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِي تِلْكَ الْأَصْنَامِ حَتَّى تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلُهُ:

إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا قَالُوا إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارُوا إِلَى الْأَصْنَامِ قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ وَقَدْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَكَيْفَ قَالَتِ الْأَصْنَامُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ؟

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا هُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنَّا نَقُولُ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، فَالْأَصْنَامُ كَذَّبُوهُمْ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِكُمْ إِنَّا نَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مَرْيَمَ: ٨٢] .

ثم قال تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَأَقَرُّوا لِلَّهِ بالربوبية

<<  <  ج: ص:  >  >>