للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

البحث الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: (يَوْمَ) مَنْصُوبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِي يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِي الرحمة والغفران في ذلك ليوم الَّذِي يَعْظُمُ احْتِيَاجُ الْإِنْسَانِ فِيهِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَذَكِّرْهُمْ أَوِ اذْكُرْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ الْعَظَمَةُ وَالْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ.

البحث الثَّانِي: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّفْسُ لَا تَكُونُ لَهَا نَفْسٌ أُخْرَى، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها.

وَالْجَوَابُ: النَّفْسُ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَدَنُ الْحَيِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُثَّةُ وَالْبَدَنُ. وَالثَّانِيَةُ: عَيْنُهَا وَذَاتُهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ وَلَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى:

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عَبَسَ: ٣٧] وَعَنْ بَعْضِهِمْ: تَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَقُولُ: يَا رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي حَتَّى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ عَنْهَا الِاعْتِذَارُ عنها كقولهم: هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الأعراف: ٣٨] وَقَوْلِهِمْ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣] .

ثم قال تَعَالَى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُنْقَضُونَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ/ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عِقَابَ الْمُذْنِبِ بِسَبَبِ الشَّفَاعَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.

وَالْجَوَابُ: لَا نِزَاعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومَاتِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ، إِلَّا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِظَوَاهِرِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَأَيْضًا فَظَوَاهِرُ الْوَعِيدِ مُعَارَضَةٌ بِظَوَاهِرِ الْوَعْدِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [الْبَقَرَةِ: ٨١] أَنَّ جَانِبَ الْوَعْدِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْوَعِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كثيرة، والله أعلم.

[[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]]

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا هَدَّدَ الْكُفَّارَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ هَدَّدَهُمْ أَيْضًا بِآفَاتِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: الْمَثَلُ قَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقَدْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ، فَهَذِهِ الْقَرْيَةُ الَّتِي ضَرَبَ اللَّهُ بِهَا هَذَا الْمَثَلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَيْئًا مَفْرُوضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَرْيَةً مُعَيَّنَةً، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَتِلْكَ الْقَرْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةَ أَوْ غيرها،

<<  <  ج: ص:  >  >>