للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى قِسْمَيْنِ: لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حُجَّةً حَقِيقِيَّةً يَقِينِيَّةً قَطْعِيَّةً مُبَرَّأَةً عَنِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ حُجَّةً تُفِيدُ الظَّنَّ الظَّاهِرَ وَالْإِقْنَاعَ الْكَامِلَ، فَظَهَرَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ انْحِصَارُ الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ. أَوَّلُهَا: الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحِكْمَةِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي صِفَتِهَا: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] . وَثَانِيهَا: الْأَمَارَاتُ الظَّنِّيَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْإِقْنَاعِيَّةُ/ وَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ.

وَثَالِثُهَا: الدَّلَائِلُ الَّتِي يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا إِلْزَامَ الْخُصُومِ وَإِفْحَامَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَدَلُ، ثُمَّ هَذَا الْجَدَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ مِنْ مُقَدَّمَاتٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَهَذَا الْجَدَلُ هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.

والقسم الثَّانِي: أَنْ يَكُوُنَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مُرَكَّبًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَاطِلَةٍ فَاسِدَةٍ إِلَّا أَنَّ قَائِلَهَا يُحَاوِلُ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ بِالسَّفَاهَةِ وَالشَّغَبِ، وَالْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، وَالطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْفَضْلِ إِنَّمَا اللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا انْحِصَارُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَهْلُ الْعِلْمِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: الْكَامِلُونَ الطَّالِبُونَ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْقِسْمُ الثاني الذي تَغْلِبُ عَلَى طِبَاعِهِمُ الْمُشَاغَبَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ لَا طَلَبُ الْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ اللَّائِقَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمُجَادَلَةُ الَّتِي تُفِيدُ الْإِفْحَامَ وَالْإِلْزَامَ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا الطَّرَفَانِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ طَرَفُ الْكَمَالِ، وَالثَّانِي: طَرَفُ النُّقْصَانِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَهُوَ الْوَاسِطَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ مَا بَلَغُوا فِي الْكَمَالِ إِلَى حَدِّ الْحُكَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِي النُّقْصَانِ وَالرَّذَالَةِ إِلَى حَدِّ الْمُشَاغِبِينَ الْمُخَاصِمِينَ، بَلْ هُمْ أَقْوَامٌ بَقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالسَّلَامَةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَمَا بَلَغُوا إِلَى دَرَجَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِفَهْمِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْمُكَالَمَةُ مَعَ هَؤُلَاءِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَدْنَاهَا الْمُجَادَلَةُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْخَلَائِقِ الْحُكَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَوْسَطُهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَرْبَابُ السَّلَامَةِ، وَفِيهِمُ الْكَثْرَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَأَدْنَى الْمَرَاتِبِ الَّذِينَ جُبِلُوا عَلَى طَبِيعَةِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ مَعْنَاهُ ادْعُ الْأَقْوِيَاءَ الْكَامِلِينَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ، وَهِيَ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْيَقِينِيَّةُ وَعَوَامَّ الْخَلْقِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْيَقِينِيَّةُ الْإِقْنَاعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ، وَالتَّكَلُّمُ مَعَ الْمُشَاغِبِينَ بِالْجَدَلِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ الْأَكْمَلِ.

وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فَقَصَرَ الدَّعْوَةَ على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالدَّلَائِلِ الظَّنِّيَّةِ فَهِيَ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، أَمَّا الْجَدَلُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الدَّعْوَةِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ غَرَضٌ آخَرُ مُغَايِرٌ/ لِلدَّعْوَةِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِفْحَامُ فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَقُلْ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجَدَلِ الْأَحْسَنِ، بَلْ قَطَعَ الْجَدَلَ عَنْ بَابِ الدَّعْوَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الدَّعْوَةُ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>