للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَدْرَجَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارَ الْعَالِيَةَ الشَّرِيفَةَ مَعَ أَنَّ أْكَثْرَ الْخَلْقِ كَانُوا غَافِلِينَ عَنْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَبْصَارِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ مُكَلَّفٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا حُصُولُ الْهِدَايَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَ، فَهُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالضَّالِّينَ وَأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ جَوَاهِرَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْمَاهِيَّةِ، فَبَعْضُهَا نُفُوسٌ مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ قَلِيلَةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ كَثِيرَةُ الِانْجِذَابِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ وَبَعْضُهَا مُظْلِمَةٌ كَدِرَةٌ قَوِيَّةُ التَّعَلُّقِ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ عَدِيمَةُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الرُّوحَانِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الِاسْتِعْدَادَاتُ مِنْ لَوَازِمِ جَوَاهِرِهَا، لَا جَرَمَ يَمْتَنِعُ انْقِلَابُهَا وَزَوَالُهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: اشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَلَا تَطْمَعُ فِي حُصُولِ الْهِدَايَةِ لِلْكُلِّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِضَلَالِ النُّفُوسِ الضَّالَّةِ الْجَاهِلَةِ وَبِإِشْرَاقِ النُّفُوسِ الْمُشْرِقَةِ الصَّافِيَةِ فَلِكُلِّ نَفْسٍ فِطْرَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمَاهِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، كَمَا قال: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: ٣٠] والله أعلم.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]

وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ وَقَدْ مَثَّلُوا بِهِ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ.

وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالشَّعْبِيِّ

وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إِنَّ سُورَةَ النَّحْلِ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالسَّيْفِ وَالْجِهَادِ، حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤا بِالْقِتَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٩٠] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَزِيدُوا.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ الْمَظْلُومِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ مِنَ الظَّالِمِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ أَخَذَ مِنْكَ رَجَلٌ شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ، وَأَقُولُ: إِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قِصَّةٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا يُوجِبُ حُصُولَ سُوءِ التَّرْتِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُطْرِقُ الطَّعْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، بَلِ الْأَصْوَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْجِدَالُ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ تَتَضَمَّنُ أَمْرَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالحكم عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْقُلُوبَ وَيُوحِشُ الصُّدُورَ، وَيَحْمِلُ أَكْثَرَ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى قَصْدِ ذَلِكَ الدَّاعِي بِالْقَتْلِ تَارَةً، وَبِالضَّرْبِ ثَانِيًا وَبِالشَّتْمِ ثَالِثًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>