للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا أَكْثَرَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ فَهْمَهَا وَالْإِيمَانَ بِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْأَصَمُّ: شَبَّهَهُمْ بِالدَّوَابِّ النَّافِرَةِ، أَيْ مَا ازْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعْدًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ:

فَزادَتْهُمْ رِجْساً [التَّوْبَةِ: ١٢٥] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ تَصْرِيفَ الْقُرْآنِ لَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا، فَلَوْ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ لَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يَزِيدُهُمْ نَفْرَةً وَنَبْوَةً عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ وَعَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ يَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ النَّفْرَةِ وَالنَّبْوَةِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ عند ما يُحَاوِلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ يَحْتَرِزُ عَمَّا يُوجِبُ مَزِيدَ النَّفْرَةِ وَالنَّبْوَةِ فَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا التَّصْرِيفَ يَزِيدُهُمْ نُفُورًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

/ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلُهُ: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا هُوَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى دَلِيلِ التَّمَانُعِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٢] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] ، فَقَالَ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى لَطَلَبَتْ لِأَنْفُسِهَا أَيْضًا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسَبِيلًا إِلَيْهِ وَلَطَلَبَتْ لِأَنْفُسِهَا الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَالدَّرَجَاتِ الشَّرِيفَةَ مِنَ الْأَحْوَالِ الرَّفِيعَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَتَّخِذَ لِأَنْفُسِهَا سَبِيلًا إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تُقَرِّبَكُمْ إِلَى اللَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قرأ ابن كثير كَما يَقُولُونَ وعَمَّا يَقُولُونَ ويسبح بِالْيَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمَعْنَى كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢] وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كُلَّهَا بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي الْأَوَّلِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالْيَاءِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْأَوَّلَيْنِ بِالْيَاءِ، وَالْأَخِيرَ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوَّلَ وَالْأَخِيرَ بِالتَّاءِ وَالْأَوْسَطَ بِالْيَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْآلِهَةِ قَوْلٌ بَاطِلٌ، أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَتَعالى وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّعَالِي الِارْتِفَاعُ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>