للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقَرْنَيْنِ وَأَبْهَمَ قِصَّةَ الرُّوحِ وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَبَيَّنَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَقَالَ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَوَّلُهُا: أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَ أَعْظَمَ شَأْنًا وَلَا أَعْلَى مَكَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةً بَلْ حَاصِلَةً فَأَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّوحِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنْ أَجَابَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ نَبِيٌّ وَهَذَا كَلَامٌ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ لِأَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ لَيْسَتْ إِلَّا حِكَايَةً مِنَ الْحِكَايَاتِ وَذِكْرُ الْحِكَايَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى النُّبُوَّةِ وَأَيْضًا فَالْحِكَايَةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ كَذَّبُوهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِنُبُوَّتِهِ فَحِينَئِذٍ صَارَتْ نُبُوَّتُهُ مَعْلُومَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَابِ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ فَهَذَا يَبْعُدُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الرُّوحِ يَعْرِفُهَا أَصَاغِرُ الْفَلَاسِفَةِ وَأَرَاذِلُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَا أَعْرِفُهَا لَأَوْرَثَ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّحْقِيرَ وَالتَّنْفِيرَ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفِيدُ تَحْقِيرَ أَيِّ إِنْسَانٍ كَانَ فَكَيْفَ الرَّسُولُ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ الْعُلَمَاءِ وَأَفْضَلُ الْفُضَلَاءِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّهِ: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرَّحْمَنِ: ١، ٢] وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

[النِّسَاءِ: ١١٣] وَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] ،

وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: «أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ»

فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَصِفَتُهُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنَّ يَقُولَ أَنَا لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ بَلِ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَالسُّؤَالُ عَنِ الرُّوحِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ مَاهِيَّةُ الرُّوحِ أَهْوَ مُتَحَيَّزٌ أَوْ حَالٌّ فِي الْمُتَحَيَّزِ أَوْ مَوْجُودٌ غَيْرُ مُتَحَيَّزٍ وَلَا حَالٌّ فِي التَّحَيُّزِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ الرُّوحُ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ. وَثَالِثُهَا:

أَنْ يُقَالَ الْأَرْوَاحُ هَلْ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْأَجْسَامِ أَوْ تَفْنَى. وَرَابِعُهَا: أَنْ يُقَالَ مَا حَقِيقَةُ سَعَادَةِ الْأَرْوَاحِ وَشَقَاوَتِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرُّوحِ كثيرة، وقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ سَأَلُوا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَسْأَلَتَيْنِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِحْدَاهُمَا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الرُّوحِ وَالثَّانِيَةُ عَنْ قِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا.

أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فَهُمْ قَالُوا مَا حَقِيقَةُ الرُّوحِ وَمَاهِيَّتُهُ؟ أَهْوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَجْسَامٍ مَوْجُودَةٍ فِي دَاخِلِ هَذَا الْبَدَنِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنَ امْتِزَاجِ الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاطِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ هَذَا الْمِزَاجِ وَالتَّرْكِيبِ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَرَضٍ آخَرَ قَائِمٍ بِهَذِهِ الْأَجْسَامِ، أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ يُغَايِرُ هَذِهِ/ الْأَجْسَامَ وَالْأَعْرَاضَ؟ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ أَشْيَاءُ تَحْدُثُ مِنَ امْتِزَاجِ الْأَخْلَاطِ وَالْعَنَاصِرِ، وَأَمَّا الرُّوحُ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ مُجَرَّدٌ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِمُحْدَثِ قوله: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٤٧] فَقَالُوا لِمَ كَانَ شَيْئًا مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْأَجْسَامِ وَلِهَذِهِ الْأَعْرَاضِ فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ يَحْدُثُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي إِفَادَةِ الْحَيَاةِ لِهَذَا الْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتِهَا مَجْهُولَةٌ. فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ السَّكَنْجَبِينَ لَهُ خَاصِّيَّةٌ تَقْتَضِي قَطْعَ الصَّفْرَاءِ فَأَمَّا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَعْرِفَ مَاهِيَّةَ تِلْكَ الْخَاصِّيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>