للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَغْرُبُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ،

وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْبَاقُونَ حَمِئَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ حَامِيَةٍ بِأَلِفٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَمِئَةٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَيْفَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ؟ قَالَ: فِي مَاءٍ وَطِينٍ كَذَلِكَ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَالْحَمِئَةُ مَا فِيهِ مَاءٌ، وَحَمْأَةٌ سَوْدَاءُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَمِئَةِ وَالْحَامِيَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ جَامِعَةً لِلْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْأَرْضَ كُرَةٌ وَأَنَّ السَّمَاءَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْفَلَكِ، وَأَيْضًا قَالَ: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُلُوسَ قَوْمٍ فِي قُرْبِ الشَّمْسِ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَأَيْضًا الشَّمْسُ أَكْبَرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَيْفَ يُعْقَلُ دُخُولُهَا فِي عَيْنٍ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا بَلَغَ مَوْضِعَهَا فِي الْمَغْرِبِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِمَارَاتِ وَجَدَ الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ وَهْدَةٍ مُظْلِمَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ رَاكِبَ الْبَحْرِ يَرَى الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَغِيبُ/ فِي الْبَحْرِ إِذَا لَمْ يَرَ الشَّطَّ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَغِيبُ وَرَاءَ الْبَحْرِ، هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ لِلْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ مَسَاكِنَ يُحِيطُ الْبَحْرُ بِهَا فَالنَّاظِرُ إِلَى الشَّمْسِ يَتَخَيَّلُ كَأَنَّهَا تَغِيبُ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِحَارَ الْغَرْبِيَّةَ قَوِيَّةُ السُّخُونَةِ فَهِيَ حَامِيَةٌ وَهِيَ أَيْضًا حَمِئَةٌ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ السَّوْدَاءِ وَالْمَاءِ فَقَوْلُهُ: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ مِنَ الْأَرْضِ قَدْ أَحَاطَ بِهِ الْبَحْرُ وَهُوَ مَوْضِعٌ شَدِيدُ السُّخُونَةِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الشَّمْسَ تَغِيبُ فِي عَيْنٍ كَثِيرَةِ الْمَاءِ وَالْحَمْأَةِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا رَصَدْنَا كُسُوفًا قَمَرِيًّا فَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُ وَرَأَيْنَا أَنَّ الْمَغْرِبِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ هَذَا الْكُسُوفُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَرَأَيْنَا الْمَشْرِقِيِّينَ قَالُوا: حَصَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ الثَّانِي عِنْدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بَلْ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ عِنْدَنَا فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ فِي بَلَدٍ وَوَقْتُ الظُّهْرِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَوَقْتُ الضَّحْوَةِ فِي بَلَدٍ ثَالِثٍ. وَوَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي بَلَدٍ رَابِعٍ، وَنِصْفُ اللَّيْلِ فِي بَلَدٍ خَامِسٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مَعْلُومَةً بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ وَالِاعْتِبَارِ. وَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَانَ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهَا تَغِيبُ فِي الطِّينِ وَالْحَمْأَةِ كَلَامًا عَلَى خِلَافِ الْيَقِينِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُبَرَّأٌ عَنْ هَذِهِ التُّهْمَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُصَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذكرناه ثم قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عِنْدَهَا إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّمْسِ وَيَكُونُ التَّأْنِيثُ لِلشَّمْسِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا تَخَيَّلَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ هُنَاكَ كَانَ سُكَّانُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَأَنَّهُمْ سَكَنُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّمْسِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالتَّأْوِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الأول: أن قوله تعالى: قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَحُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ خَاطَبَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ عَجِيبَةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُنَاكَ مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ لَوْلَا أَصْوَاتُ أَهْلِهَا سَمِعَ النَّاسُ وَجْبَةَ الشَّمْسِ حِينَ تَغِيبُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>