للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَيْسَ نَصًّا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْغُلَامِ وَلَدًا لَهُ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاعَى الْأَدَبَ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْكَلَامَ هَلْ يَكُونُ لِي وَلَدٌ أَمْ لَا، بَلْ ذَكَرَ أَسْبَابَ تَعَذُّرِ حُصُولِ الْوَلَدِ فِي الْعَادَةِ حَتَّى إِنَّ تِلْكَ الْبِشَارَةَ إِنْ كَانَتْ بِالْوَلَدِ فَاللَّهُ تَعَالَى يُزِيلُ الْإِبْهَامَ وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ صَرِيحًا فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْهُ فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ زَكَرِيَّا هَذَا لَا أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلشَّكِّ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِقُدْرَتِهِ وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَرَى صَاحِبَهُ قَدْ وَهَبَ الْكَثِيرَ الْخَطِيرَ فَيَقُولُ أَنَّى سَمَحَتْ نَفْسُكَ بِإِخْرَاجِ مِثْلِ هَذَا مِنْ مِلْكِكَ! تَعْظِيمًا وَتَعَجُّبًا. الثَّالِثُ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ بُشِّرَ بِمَا يَتَمَنَّاهُ أَنْ يَتَوَلَّدَ لَهُ فَرْطُ السُّرُورِ بِهِ عِنْدَ أول ما يرد علي اسْتِثْبَاتُ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِمَّا لِأَنَّ شِدَّةَ فَرَحِهِ بِهِ تُوجِبُ ذُهُولَهُ عَنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بُشِّرَتْ بِإِسْحَاقَ قَالَتْ: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هُودٍ: ٧٢] فَأُزِيلَ تَعَجُّبُهَا بِقَوْلِهِ: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هُودٍ: ٧٣] وَإِمَّا طَلَبًا لِلِالْتِذَاذِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِمَّا مُبَالَغَةً فِي تأكيد التفسير.

[[سورة مريم (١٩) : آية ٩]]

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَافَ رَفْعٌ أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ ثُمَّ ابْتَدَأَ قَالَ رَبُّكَ. وَثَانِيهَا: نَصْبٌ يُقَالُ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ تَفْسِيرُهُ/ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ: ٦٦] وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَعْجَبْ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ قَالَ رَبَّكُ لَا خُلْفَ فِي قَوْلِهِ وَلَا غَلَطَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ بِدَلِيلِ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا.

وَرَابِعُهَا: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ مَعْنَاهُ تُعْطِينِي الْغُلَامَ بِأَنْ تَجْعَلَنِي وَزَوْجَتِي شَابَّيْنِ أَوْ بِأَنْ تَتْرُكَنَا عَلَى الشَّيْخُوخَةِ وَمَعَ ذَلِكَ تُعْطِينَا الْوَلَدَ، وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ أَيْ نَهَبُ الْوَلَدَ مَعَ بَقَائِكَ وَبَقَاءِ زَوْجَتِكَ عَلَى الْحَاصِلَةِ فِي الْحَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَهَذَا لَا يُخَرَّجُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيِ الْأَمْرُ كَمَا قَلْتَ وَلَكِنْ قَالَ رَبُّكَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَيَّ هَيِّنٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِطْلَاقُ لَفْظِ الْهَيِّنِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَصْعُبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَالنَّفْيِ الْمَحْضِ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْآثَارِ وَأَمَّا الْآنَ فَخَلْقُ الْوَلَدِ مِنَ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَّا إِلَى تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ وَالْقَادِرُ عَلَى خَلْقِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْآثَارِ مَعًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ وَإِذَا أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمٍ فَكَذَا يَرْزَقُهُ الْوَلَدَ بِأَنْ يُعِيدَ إِلَيْهِ وَإِلَى صَاحِبَتِهِ الْقُوَّةَ الَّتِي عَنْهَا يَتَوَلَّدُ الْمَاءَانِ اللَّذَانِ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا يُخْلَقُ الْوَلَدُ وَلِذَلِكَ قَالَ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٠] فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ ملك مع الاعتراف

<<  <  ج: ص:  >  >>