للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمُ اخْتُصُّوا بِهَذِهِ الْمَنَازِلِ لِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَلِأَنَّهُ اخْتَارَهُمْ لِلرِّسَالَةِ ثُمَّ قَالَ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ بَلَغُوا الْحَدَّ الَّذِي عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ يَخِرُّونَ سُجَّدًا وَبُكِيًّا خُضُوعًا وَخُشُوعًا وَحَذَرًا وَخَوْفًا، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللَّهِ مَا خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَذَابِ الْمُنَزَّلِ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يَسْجُدُوا عِنْدَهُ وَيَبْكُوا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ تُتْلَى مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِذَا فَكَّرَ فِيهِ الْمُتَفَكِّرُ صَحَّ أَنْ يَسْجُدَ عِنْدَهُ وَأَنْ يَبْكِيَ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي السُّجُودِ: إِنَّهُ الصَّلَاةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي سُجُودًا مَخْصُوصًا عِنْدَ التِّلَاوَةِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ كَانُوا قَدْ تُعُبِّدُوا بِالسُّجُودِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الْآيَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي بُكِيًّا: جَمْعُ بَاكٍ مِثْلُ شَاهِدٍ وَشُهُودٍ وَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ ثُمَّ قَالَ الْإِنْسَانُ فِي حَالِ خُرُورِهِ لَا يَكُونُ سَاجِدًا فَالْمُرَادُ خَرُّوا مُقَدِّرِينَ لِلسُّجُودِ وَمَنْ قَالَ فِي بُكِيًّا إِنَّهُ مَصْدَرٌ فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّ سُجَّدًا جَمْعُ سَاجِدٍ وَبُكِيًّا مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ

وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُوا الْقُرْآنَ وَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا»

وَعَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ قَالَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا قَرَأْتُمْ سَجْدَةَ سُبْحَانَ فَلَا تَعْجَلُوا بِالسُّجُودِ حَتَّى تَبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكِ عَيْنُ أَحَدِكُمْ فَلْيَبْكِ قَلْبُهُ.

وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القرآن نزل فاقرأوه بِحُزْنٍ»

وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِهِ بِمَاءٍ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ جَسَدَهَا»

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْعُو فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِمَا يَلِيقُ بِهَا فَإِنْ قَرَأَ آيَةَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ السَّاجِدِينَ لِوَجْهِكَ الْمُسَبِّحِينَ بِحَمْدِكَ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ أَمْرِكَ وَإِنْ قَرَأَ سَجْدَةَ سُبْحَانَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْبَاكِينَ إِلَيْكَ الْخَاشِعِينَ لَكَ وَإِنْ قَرَأَ هَذِهِ السَّجْدَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِكَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُهْتَدِينَ السَّاجِدِينَ لَكَ الْبَاكِينَ عِنْدَ تلاوة آيات كتابك.

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ بِصِفَاتِ الْمَدْحِ تَرْغِيبًا لَنَا فِي التَّأَسِّي بِطَرِيقَتِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَهُمْ مَنْ هُوَ بِالضِّدِّ مِنْهُمْ فَقَالَ: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ خَلْفٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ يُقَالُ: خَلَفَهُ إِذَا أَعْقَبَهُ ثم قيل في عقب الخبر خَلَفٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَفِي عَقِبِ الشَّرِّ خَلْفٌ بِالسُّكُونِ، كَمَا قَالُوا: وَعْدٌ فِي ضَمَانِ الْخَيْرِ وَوَعِيدٌ فِي ضَمَانِ الشَّرِّ وَفِي الْحَدِيثِ: «فِي اللَّهِ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ هَالِكٍ» وَفِي الشِّعْرِ لِلَبِيدِ:

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَإِضَاعَةُ الصَّلَاةِ فِي مُقَابَلَةِ قوله: خَرُّوا سُجَّداً [السجدة: ١٥] وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَبُكِيًّا لِأَنَّ بُكَاءَهُمْ يَدُلُّ عَلَى خَوْفِهِمْ وَاتِّبَاعَ هَؤُلَاءِ لِشَهَوَاتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ لَهُمْ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَضاعُوا الصَّلاةَ تَرَكُوهَا لَكِنَّ تَرْكَهَا قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا تُفْعَلَ أَصْلًا وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>