للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما لَا يَلِيقُ إِلَّا بِحَالِ التَّكْلِيفِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا لِلرَّسُولِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ نَسِيًّا يَجُوزُ عَلَيْهِ السَّهْوُ حَتَّى يَضُرَّكَ إِبْطَاؤُنَا بِالتَّنَزُّلِ عَلَيْكَ إِلَى مثل ذلك ثم هاهنا أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّنَزُّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى النُّزُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُطَاوِعُ نَزَّلَ وَنَزَّلَ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنْزَلَ وَبِمَعْنَى التَّدْرِيجِ وَاللَّائِقُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ النُّزُولُ عَلَى مَهَلٍ وَالْمُرَادُ أَنَّ نُزُولَنَا فِي الْأَحَايِينِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ لَيْسَ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْبَحْثُ الثَّانِي: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَهُ مَا قُدَّامَنَا وَمَا خَلْفَنَا مِنَ الْجِهَاتِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا نَتَمَالَكُ أَنْ نَنْتَقِلَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَنْقَلِبَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَثَانِيهَا: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مَا سَلَفَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَنَا مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وثالثها: ما مضى من أعمارنا وما غير مِنْ ذَلِكَ وَالْحَالُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا. وَرَابِعُهَا: مَا قَبْلَ وُجُودِنَا وَمَا بَعْدَ فَنَائِنَا. وَخَامِسُهَا: الْأَرْضُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا إِذَا نَزَلْنَا وَالسَّمَاءُ الَّتِي وَرَاءَنَا وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَكَيْفَ نُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أَيْ تَارِكًا لَكَ كَقَوْلِهِ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضُّحَى: ٣] أَيْ مَا كَانَ امْتِنَاعُ النُّزُولِ إِلَّا لِامْتِنَاعِ الْأَمْرِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ تَرْكِ اللَّهِ لَكَ وَتَوْدِيعِهِ إِيَّاكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ رَبًّا لَهَا أَجْمَعَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُمْسِكَهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَإِلَّا بَطَلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا وَفِيمَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا، وَاحْتَجَّ/ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ حَاصِلٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ رَبٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَصَلَ بَيْنَهُمَا، قال صاحب «الكشاف» : رب السموات وَالْأَرْضِ بَدَلٌ مِنْ رَبِّكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات وَالْأَرْضِ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ فَهُوَ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُصَابَرَةِ عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِبْلَاغِ وَفِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ وَاصْطَبِرْ عَلَى عِبَادَتِهِ بَلْ قَالَ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ قُلْنَا:

لِأَنَّ الْعِبَادَةَ جُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقِرْنِ فِي قَوْلِكَ لِلْمُحَارِبِ اصْطَبِرْ لِقِرْنِكَ أَيِ اثْبُتْ لَهُ فِيمَا يُورِدُ عَلَيْكَ مِنْ شَدَّاتِهِ.

وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ تُورِدُ عَلَيْكَ شَدَائِدَ وَمَشَاقَّ فَاثْبُتْ لَهَا وَلَا تَهِنْ وَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ مِنْ إِلْقَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَيْكَ الْأَغَالِيطَ عَنِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ عَنْكَ مُدَّةً وَشَمَاتَةِ الْمُشْرِكِينَ بِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ عِلَّةَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ، وَالْأَقْرَبُ هُوَ كَوْنُهُ مُنْعِمًا بِأُصُولِ النِّعَمِ وَفُرُوعِهَا وَهِيَ خَلْقُ الْأَجْسَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا كَانَ هُوَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِغَايَةِ الْإِنْعَامِ وَجَبَ أَنْ تُعَظِّمَهُ بِغَايَةِ التَّعْظِيمِ وَهِيَ الْعِبَادَةُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي اسْمِهِ وَبَيَّنُوا ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْإِلَهِ عَلَى الْوَثَنِ فَمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ غَيْرُهُ. الثَّانِي: هَلْ تَعْلَمُ مَنْ سُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى الْحَقِّ دُونَ الْبَاطِلِ؟ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْبَاطِلِ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا كَلَا تَسْمِيَةٍ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>