للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا التَّقْدِيرِ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ إِطْلَاعِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، قَالَ قُطْرُبٌ: هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا يَقُولُونَ: إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ كَتَمْتُهُ حَتَّى مِنْ نَفْسِي فاللَّه تَعَالَى بَالَغَ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ فَذَكَرَهُ بِأَبْلَغِ مَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ. وَخَامِسُهَا: أَكادُ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُخْفِيهَا، قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ:

سَرِيعٌ إِلَى الْهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ ... فَمَا إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ

وَالْمَعْنَى فَمَا يَتَنَفَّسُ قِرْنُهُ. وَسَادِسُهَا: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْمَوْصِلِيُّ أَكادُ أُخْفِيها تَأْوِيلُهُ أَكَادُ أُظْهِرُهَا وَتَلْخِيصُ هَذَا اللَّفْظِ أَكَادُ أُزِيلُ عَنْهَا إِخْفَاءَهَا لِأَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى السَّلْبِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِكَ أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ وَأَشْكَلْتُهُ أَيْ أَزَلْتُ عُجْمَتَهُ وَإِشْكَالَهُ وَأَشْكَيْتُهُ أَيْ أَزَلْتُ شَكْوَاهُ. وَسَابِعُهَا: قُرِئَ أَخْفِيهَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أَكَادُ أُظْهِرُهَا من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهارها كَقَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَرِ: ١] قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَإِنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ ... وَإِنْ تَمْنَعُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ

أَيْ لَا نُظْهِرْهُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَبْيَنُ لِأَنَّ مَعْنَى أَكَادُ أُظْهِرُهَا يُفِيدُ أَنَّهُ قَدْ أَخْفَاهَا. وَثَامِنُهَا:

أَرَادَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ وَانْقَطَعَ الْكَلَامُ ثُمَّ قَالَ أُخْفِيهَا ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى الْإِخْفَاءُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ واللَّه أَعْلَمُ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ وَإِخْفَاءِ وَقْتِ الْمَوْتِ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَلَوْ عَرَفَ وَقْتَ الْمَوْتِ لَاشْتَغَلَ بِالْمَعْصِيَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ عِقَابِ الْمَعْصِيَةِ فَتَعْرِيفُ وَقْتِ الْمَوْتِ كَالْإِغْرَاءِ بِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا قَوْلُهُ: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ففيه مسائل:

المسألة الأولى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ عَنِ الْعَاصِي وَالْمُحْسِنُ عَنِ الْمُسِيءِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَوْلُهُ:

بِما تَسْعى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ هُوَ ذَلِكَ السَّعْيُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ سَعْيٌ الْبَتَّةَ أَمَّا قَوْلُهُ: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها فالصد المنع وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَيْنِ الضَّمِيرَيْنِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ لَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرْتُكَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا أَيْ بِالسَّاعَةِ فَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ وَالثَّانِي إِلَى السَّاعَةِ وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَالْعَرَبُ تَلُفُّ الْخَبَرَيْنِ ثُمَّ تَرْمِي بِجَوَابِهِمَا جُمْلَةً لِيَرُدَّ السَّامِعُ إِلَى كُلِّ خَبَرٍ حَقَّهُ. وَثَانِيهِمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَجِيئِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَيْنِ وهاهنا الْأَقْرَبُ هُوَ السَّاعَةُ وَمَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هاهنا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَصُدَّنَّكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>