للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ أَمْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَكَى سُؤَالَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْحَشْرِ فقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا السُّؤَالِ وُجُوهٌ. أحدها: أن قوله: يَتَخافَتُونَ [طه: ١٠٣] وَصْفٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِكُلِّ الْمُجْرِمِينَ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَالْجِبَالُ حَائِلَةٌ وَمَانِعَةٌ مِنْ هَذَا التَّخَافُتِ/ وَثَانِيهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّ قَوْمَهُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّ الدُّنْيَا سَتَنْقَضِي فَلَوْ صَحَّ مَا قُلْتَهُ لَوَجَبَ أَنْ تَبْتَدِئَ أَوَّلًا بِالنُّقْصَانِ ثُمَّ تَنْتَهِيَ إِلَى الْبُطْلَانِ، لَكِنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا قُلْتَهُ مِنْ خَرَابِ الدُّنْيَا؟ وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَمَسَّكَ بِهَا جَالِينُوسُ فِي أن السموات لا تفنى، قال: لأنها لو فنبت لَابْتَدَأَتْ فِي النُّقْصَانِ أَوَّلًا حَتَّى يَنْتَهِيَ نُقْصَانُهَا إِلَى الْبُطْلَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا النُّقْصَانُ عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْبُطْلَانِ بَاطِلٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَضَمَّ إِلَى الْجَوَابِ أُمُورًا أُخَرَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا.

الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: فَقُلْ مَعَ فَاءِ التَّعْقِيبِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ الطَّعْنُ فِي الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَلَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالْجَوَابِ مَقْرُونًا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا فِي الْمَسَائِلِ الفروعية فجائزة، لِذَلِكَ ذَكَرَ هُنَاكَ قُلْ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ التَّعْقِيبِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَنْسِفُها عَائِدٌ إِلَى الْجِبَالِ وَالنَّسْفُ التَّذْرِيَةُ، أَيْ تَصِيرُ الْجِبَالُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ تُذْرَى تَذْرِيَةً فَإِذَا زَالَتِ الجبال الْحَوَائِلُ فَيُعْلَمُ صِدْقُ قَوْلِهِ: يَتَخافَتُونَ قَالَ الْخَلِيلُ: يَنْسِفُها أَيْ يُذْهِبُهَا وَيُطَيِّرُهَا، أَمَّا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَيَذَرُها فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَاسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيمِ ذِكْرِهَا كَمَا فِي عَادَةِ النَّاسِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْإِضْمَارِ كَقَوْلِهِمْ: مَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ تَعَالَى: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَإِنَّمَا قَالَ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ النَّسْفَ لَا يُزِيلُ الِاسْتِوَاءَ لِئَلَّا يُقَدَّرَ أَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ صَارَتْ هُنَاكَ حَائِلَةً، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ سُؤَالِهِمُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْمُخَافَتَةِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِيهَا فِي الْحَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ أَمْرُهَا إِلَى الْبُطْلَانِ، كَانَ تَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بُطْلَانًا يَقَعُ تَوْلِيدِيًّا، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ وَقَدْ يَكُونُ بطلانا يقع دفعة واحدة، وهاهنا لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُفَرِّقُ تَرْكِيبَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة هاهنا إِلَى تَقْدِيمِ النُّقْصَانِ عَلَى الْبُطْلَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْأَرْضَ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِصِفَاتٍ. أَحَدُهَا: كَوْنُهَا قَاعًا وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ وَقِيلَ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ. وَثَانِيهَا: الصَّفْصَفُ وَهُوَ الَّذِي لَا نَبَاتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْقَاعُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ الْمُسْتَوِيَةُ وَكَذَلِكَ الصَّفْصَفُ. وَثَالِثُهَا: قَوْلِهِ: لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَدْ فَرَّقُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>