للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأرض منكرين للبعث، ويقولون: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] فَكَيْفَ يَدَّعُونَهُ لِلْجَمَادِ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَلَا بُدَّ لِلْعِبَادَةِ مِنْ فَائِدَةٍ هِيَ الثَّوَابُ فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِقْرَارَ بِكَوْنِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالتَّجْهِيلِ، يَعْنِي إِذَا كَانُوا غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يُحْيُوا وَيُمِيتُوا وَيَضُرُّوا وَيَنْفَعُوا فَأَيُّ عَقْلٍ يُجَوِّزُ اتِّخَاذَهُمْ آلِهَةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مِنَ الْأَرْضِ كَقَوْلِكَ فُلَانٌ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنَ الْمَدِينَةِ، تُرِيدُ مَكِّيٌّ أَوْ مَدَنِيٌّ إِذْ مَعْنَى نِسْبَتِهَا إِلَى الْأَرْضِ الْإِيذَانُ بِأَنَّهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْآلِهَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَرْضِيَّةٌ وَسَمَاوِيَّةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ آلِهَةٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْحُوتَةً مِنْ بَعْضِ الْحِجَارَةِ أَوْ مَعْمُولَةً مِنْ بَعْضِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النُّكْتَةُ فِي هُمْ يُنْشِرُونَ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِنْشَارِ إِلَّا هُمْ وَحْدَهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ يُنْشِرُونَ وَهُمَا لُغَتَانِ أَنْشَرَ اللَّه الْمَوْتَى وَنَشَرَهَا.

أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ النَّحْوِ إلا هاهنا بمعنى غير أي لو كان يتولاهما ويدير أُمُورَهُمَا شَيْءٌ غَيْرُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ فَاطِرُهُمَا لَفَسَدَتَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَكَانَ الْمَعْنَى لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَيْسَ مَعَهُمُ اللَّه لَفَسَدَتَا وَهَذَا يُوجِبُ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ مَعَهُمُ اللَّه أَنْ لَا يَحْصُلَ الْفَسَادُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ فَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنِ اللَّه مَعَهُمْ أَوْ كَانَ فَالْفَسَادُ لَازِمٌ. وَلَمَّا بَطَلَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: الْقَوْلُ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ يُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ إِلَهَيْنِ مُحَالًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُجُودَ إِلَهَيْنِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى تَحْرِيكِ زَيْدٍ وَتَسْكِينِهِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ تَحْرِيكَهُ وَالْآخَرَ تَسْكِينَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْمَرَادَانِ وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ أَوْ لَا يَقَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُجُودِ مُرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادُ الْآخَرِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مُرَادُ هَذَا إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ مُرَادِ ذَلِكَ وَبِالْعَكْسِ، فَلَوِ امْتَنَعَا مَعًا لَوُجِدَا/ مَعًا وَذَلِكَ مُحَالٌ أَوْ يَقَعُ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي وَذَلِكَ مُحَالٌ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ امْتَنَعَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا أَقْدَرَ مِنَ الْآخَرِ بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقُدْرَةِ. وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقُدْرَةِ اسْتَحَالَ أَنْ يَصِيرَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى بِالْوُقُوعِ مِنْ مُرَادِ الثَّانِي وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالَّذِي وَقَعَ مُرَادُهُ يَكُونُ قَادِرًا وَالَّذِي لَمْ يَقَعْ مُرَادُهُ يَكُونُ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَهُوَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ الْفَسَادُ إِنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِرَادَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَدَّعُونَ وُجُوبَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِرَادَةِ بَلْ أَقْصَى مَا تَدَّعُونَهُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ مُمْكِنٌ، فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ مَبْنِيًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِرَادَةِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مُمْكِنٌ وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُمْكِنِ مُمْكِنٌ فَكَانَ الْفَسَادُ مُمْكِنًا لَا وَاقِعًا فَكَيْفَ جَزَمَ اللَّه تَعَالَى بِوُقُوعِ الْفَسَادِ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>