للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ إلى قوله لِيَوْمِ الْقِيامَةِ] اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْأَدِلَّةَ وَبَالَغَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أَيْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ رَبِّكُمْ فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِي بَلِ اللَّه آتِيكُمْ بِهِ وَأَمَرَنِي بِإِنْذَارِكُمْ فَإِذَا قُمْتُ بِمَا أَلْزَمَنِي رَبِّي فَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ فَالْوَبَالُ عَلَيْكُمْ يَعُودُ، وَمَثَّلَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْ إِنْذَارِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَتَوَالِيهِ بِالصُّمِّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ أَصْلًا إِذِ الْغَرَضُ بِالْإِنْذَارِ لَيْسَ السَّمَاعَ بَلِ التَّمَسُّكَ بِهِ فِي إِقْدَامٍ عَلَى وَاجِبٍ وَتَحَرُّزٍ عَنْ مُحَرَّمٍ وَمَعْرِفَةٍ بِالْحَقِّ. فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْغَرَضُ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَلَا تُسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ أَيْ لَا تُسْمِعُ أَنْتَ أَوْ لَا يُسْمِعُ رَسُولُ اللَّه أَوْ لَا يُسْمِعُ الصُّمَّ مَنْ أَسْمَعَ، فَإِنْ قُلْتَ: الصُّمُّ لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ الْبَشَرِ كَمَا لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَ الْمُنْذِرِ. فَكَيْفَ قَالَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ؟ قُلْتُ: اللَّامُ فِي الصُّمِّ/ إِشَارَةٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُنْذَرِينَ كَائِنَةٌ لِلْعَهْدِ لَا لِلْجِنْسِ، وَالْأَصْلُ وَلَا يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ فَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصَامُمِهِمْ وَسَدِّهِمْ أَسْمَاعَهُمْ إِذَا أُنْذَرُوا أَيْ هُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَالْجَسَارَةِ عَلَى التَّصَامُمِ عَنْ آيَاتِ الْإِنْذَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ حَالَهُمْ سَيَتَغَيَّرُ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا بِحَيْثُ إِذَا شَاهَدُوا الْيَسِيرَ مِمَّا أُنْذَرُوا بِهِ فَعِنْدَهُ يَسْمَعُونَ وَيَعْتَذِرُونَ وَيَعْتَرِفُونَ حِينَ لَا يَنْتَفِعُونَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وَأَصْلُ النَّفْحِ مِنَ الرِّيحِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَعْنَى وَلَئِنْ مَسَّهُمْ شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ عَذَابِ اللَّه كَالرَّائِحَةِ مِنَ الشَّيْءِ دُونَ جِسْمِهِ لَتَنَادَوْا بِالْوَيْلِ وَاعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي الْمَسِّ وَالنَّفْحَةِ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتٍ: لَفْظُ الْمَسِّ وَمَا فِي النَّفْحِ مِنْ مَعْنَى الْقِلَّةِ وَالنَّزَارَةِ، يُقَالُ: نَفَحَتْهُ الدَّابَّةُ وَهُوَ رُمْحٌ يَسِيرٌ وَنَفَحَهُ بِعَطِيَّةٍ رَضَخَهُ، وَلَفْظُ الْمَرَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَدْلًا فَهُمْ وَإِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يُظْلَمُوا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمِيزَانَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا وَقَدْ يَكُونُ بِخِلَافِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَازِينَ تَجْرِي عَلَى حَدِّ الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وهاهنا مسائل:

المسألة الأولى: معنى وضعها إحظارها، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِسْطُ صِفَةُ الْمَوَازِينِ وَإِنْ كَانَ مُوَحَّدًا وَهُوَ كَقَوْلِكَ لِلْقَوْمِ: أَنْتُمْ عَدْلٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ذَوَاتَ الْقِسْطِ وَقَوْلُهُ: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قَالَ الْفَرَّاءُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِأَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَضْعِ الْمَوَازِينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ مُجَاهِدٌ هَذَا مَثَلٌ وَالْمُرَادُ بِالْمَوَازِينِ الْعَدْلُ وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْمَعْنَى بِالْوَزْنِ الْقِسْطُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَمَنْ أَحَاطَتْ حَسَنَاتُهُ بِسَيِّئَاتِهِ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَعْنِي أَنَّ حَسَنَاتِهِ تَذْهَبُ بِسَيِّئَاتِهِ وَمَنْ أَحَاطَتْ سَيِّئَاتُهُ بحسناته فقد خفت موازينه أَيْ أَنَّ سَيِّئَاتِهِ تَذْهَبُ بِحَسَنَاتِهِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْحَقِيقِيَّةَ فَتُوزَنُ بِهَا الْأَعْمَالُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ مِيزَانٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَهُوَ بَيْدِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَيُرْوَى: «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْمِيزَانَ فَلَمَّا رَآهُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلَأَ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلَأْتُهَا بِتَمْرَةٍ»

ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي كَيْفِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>