للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَبْلُ، وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَلُوطاً قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:

وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ [الأنبياء: ٧٣] . وَالثَّانِي: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قوله: آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء: ٥١] وَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِيرٍ فِي قَوْلِهِ: وَلُوطاً فَكَأَنَّهُ قَالَ وَآتَيْنَا لُوطًا فَأَضْمَرَ ذِكْرَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَصْنَافِ النِّعَمِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْحُكْمُ أَيِ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا أَوِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَقِيلَ هِيَ النُّبُوَّةُ. وَثَانِيهَا: الْعِلْمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ إِدْخَالَ التَّنْوِينِ عَلَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الْحُكْمِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ وَالْمُرَادُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ دُونَ نَفْسِ الْقَرْيَةِ وَلِأَنَّ الْهَلَاكَ بِهِمْ نَزَلَ فَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مَا أَرَادَهُ بِالْخَبَائِثِ، وَأَمْرِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ.

وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَفِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ أَيْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَالِحًا لِلنُّبُوَّةِ أَدْخَلَهُ اللَّه فِي رَحْمَتِهِ لِكَيْ يَقُومَ بِحَقِّهَا عَنْ مُقَاتِلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ الثَّوَابُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا آتَاهُ اللَّه الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ وَتَخَلَّصَ عَنْ جُلَسَاءِ السُّوءِ فُتِحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْمُكَاشَفَاتِ وَتَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ وَهِيَ الرَّحْمَةُ فِي الْحَقِيقَةِ.

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]

وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)

الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ، قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا النِّدَاءِ دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ بِالْعَذَابِ وَيُؤَكِّدُهُ حِكَايَةُ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ تَارَةً عَلَى الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [الْقَمَرِ: ١٠] وَتَارَةً عَلَى التَّفْصِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَهَذَا الْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْجَاءَ الْمَذْكُورَ فِيهِ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي السُّؤَالِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ نِدَاءَهُ وَدُعَاءَهُ كَانَ بِأَنْ يُنْجِيَهُ مِمَّا يَلْحِقُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنْ ضُرُوبِ الْأَذَى بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ وَبِأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ. فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ الصَّلَاحُ أَنْ لَا يُجَابَ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُقْصَانِ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ لَكَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِضْرَارِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: لَمْ يَتَحَسَّرْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى كَحَسْرَةِ آدَمَ وَنُوحٍ، فَحَسْرَةُ آدَمَ عَلَى قَبُولِ وَسُوسَةِ إِبْلِيسَ، وَحَسْرَةُ نُوحٍ عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ لَا تَتَحَسَّرَ فَإِنَّ دَعْوَتَكَ وَافَقَتْ قدري.

<<  <  ج: ص:  >  >>