للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَبِّهِ

وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ فِيهَا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَزَعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِمَكَانِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ وَالرَّهْبَةِ فِي عِقَابِهِ. وَالثَّانِي: الْخُشُوعُ وَهُوَ الْمَخَافَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْقَلْبِ، فَيَكُونُ الْخَاشِعُ هُوَ الْحَذِرُ الَّذِي لَا يَنْبَسِطُ في الأمور خوفا من الإثم.

[[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]]

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

الْقِصَّةُ الْعَاشِرَةُ، قِصَّةُ مريم عليها السلام

اعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ وَاذْكُرِ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا إِحْصَانًا كُلِّيًّا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ جَمِيعًا كَمَا قَالَتْ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مَرْيَمَ: ٢٠] . وَالثَّانِي: مِنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ مَنَعَتْهُ مِنْ جَيْبِ دِرْعِهَا قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِحْيَائِهِ قَالَ تَعَالَى:

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] أَيْ أَحْيَيْتُهُ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظَاهِرَ الْإِشْكَالِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِحْيَاءِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ فَنَفَخْنَا الرُّوحَ فِي عِيسَى فِيهَا، أَيْ أَحْيَيْنَاهُ فِي جَوْفِهَا كَمَا يَقُولُ الزَّمَّارُ نَفَخْتُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ أَيْ فِي الْمِزْمَارِ فِي بَيْتِهِ.

وَثَانِيهَا: فَعَلْنَا النَّفْخَ فِي مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ جِهَةِ رُوحِنَا وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى جَوْفِهَا ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِأَخْصَرِ الْكَلَامِ مَا خَصَّ بِهِ مَرْيَمَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنَ الْآيَاتِ فَقَالَ:

وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أَمَّا مَرْيَمُ فَآيَاتُهَا كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: ظُهُورُ الْحَبَلِ فِيهَا لَا مِنْ ذَكَرٍ فَصَارَ ذَلِكَ آيَةً وَمُعْجِزَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ رِزْقَهَا كَانَ يَأْتِيهَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَالِثُهَا وَرَابِعُهَا: قَالَ الْحَسَنُ إِنَّهَا لَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا يَوْمًا قَطُّ وَتَكَلَّمَتْ هِيَ أَيْضًا فِي صِبَاهَا كَمَا تَكَلَّمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا آيَاتُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ يَتَدَبَّرُونَ فِيمَا خُصَّا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ/ وَتَعَالَى فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِيلَ آيَتَيْنِ كَمَا قَالَ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الْإِسْرَاءِ: ١٢] قُلْنَا لِأَنَّ حَالَهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ وِلَادَتُهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فحل. وهنا آخر القصص.

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣)

قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْأُمَّةُ الْمِلَّةُ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ أَنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا يُشَارُ إِلَيْهَا بِمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاعْبُدُونِ، وَنَصَبَ الْحَسَنُ (أُمَّتَكُمْ) عَلَى الْبَدَلِ مِنْ هَذِهِ وَرَفَعَ أُمَّةٌ خَبَرًا وَعَنْهُ رَفْعُهُمَا جَمِيعًا خَبَرَيْنِ أَوْ نَوَى لِلثَّانِي الْمُبْتَدَأَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَالْأَصْلُ وَتَقَطَّعْتُمْ إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ صُرِفَ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ كَأَنَّهُ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا أَفْسَدُوهُ إِلَى آخَرِينَ وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُمْ فِعْلَهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى عَظِيمِ مَا ارْتَكَبَ هَؤُلَاءِ، وَالْمَعْنَى جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَمَا تَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ وَيُقَسِّمُونَهُ فَيَصِيرُ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ وَصَيْرُورَتِهِمْ فِرَقًا وَأَحْزَابًا شَتَّى.

<<  <  ج: ص:  >  >>