للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُقُوا الذُّبَابَ حَالَ اجْتِمَاعِهِمْ فَكَيْفَ حَالُ انْفِرَادِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: أَتْرُكُ أَمْرَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَأَتَكَلَّمُ فِيمَا هُوَ أَسْهَلُ مِنْهُ، فَإِنَّ الذُّبَابَ إِنْ سَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا، فَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِنْقَاذِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الذُّبَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ الْأُولَى صَالِحَةٌ لِأَنْ يُتَمَسَّكَ بِهَا فِي نَفْيِ كَوْنِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ آلِهَةً، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِنَفْيِ كَوْنِ الْأَوْثَانِ خَالِقَةً عَالِمَةً حَيَّةً مُدَبِّرَةً، أَوْ لِنَفْيِ كَوْنِهَا مُسْتَحِقَّةً لِلتَّعْظِيمِ وَالْأَوَّلُ: فَاسِدٌ لِأَنَّ نَفْيَ كَوْنِهَا كَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الثَّانِي: فَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تُفِيدُهُ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ كَوْنِهَا حَيَّةً أَنْ لَا تَكُونَ مُعَظَّمَةً، فَإِنَّ جِهَاتِ التَّعْظِيمِ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْقَوْمُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا طَلْسَمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى صُورَةِ الْكَوَاكِبِ، أَوْ أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهَا عَلَى أَنَّ تَعْظِيمَهَا يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْجَوَابُ: أَمَّا كَوْنُهَا طَلْسَمَاتٍ مَوْضُوعَةً عَلَى الْكَوَاكِبِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهَا الْإِضْرَارُ وَالِانْتِفَاعُ، فَهُوَ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَنْفَعْ نَفْسَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ تَخْلِيصُ النَّفْسِ عَنِ الذُّبَابَةِ فَلِأَنْ لَا تَنْفَعَ غَيْرَهَا أَوْلَى، وَأَمَّا أَنَّهَا تَمَاثِيلُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعَقْلِ أَنَّ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْمُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا غَايَةَ التَّعْظِيمِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فِي التَّعْظِيمِ، فَمِنْ هَاهُنَا صَارُوا مُسْتَوْجِبِينَ لِلذَّمِّ وَالْمَلَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّنَمُ وَالذُّبَابُ فَالصَّنَمُ كَالطَّالِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ طَلَبَ أَنْ يَخْلُقَهُ وَيَسْتَنْقِذَ مِنْهُ مَا اسْتَلَبَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ وَالذُّبَابُ بِمَنْزِلَةِ/ الْمَطْلُوبِ الثَّانِي: أَنَّ الطَّالِبَ مَنْ عَبَدَ الصَّنَمَ، وَالْمَطْلُوبَ نَفْسُ الصَّنَمِ أَوْ عِبَادَتُهَا، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ كَوْنَ الصَّنَمِ طَالِبًا لَيْسَ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، أَمَّا هَاهُنَا فَعَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ لَكِنَّ الْمَجَازَ فِيهِ حَاصِلٌ لِأَنَّ الْوَثَنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ الضَّعْفَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَقْوَى، وَهَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ:

ضَعُفَ لَا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِظُهُورِ قُبْحِ هَذَا الْمَذْهَبِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْءِ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ: مَا أَضْعَفَ هَذَا الْمَذْهَبَ وَمَا أَضْعَفَ هَذَا الوجه.

أَمَّا قَوْلُهُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ، حَيْثُ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَصْنَامَ عَلَى نِهَايَةِ خَسَاسَتِهَا شَرِيكَةً لَهُ فِي الْمَعْبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مُفَسَّرَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ قَوِيٌّ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ وعزيز لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مُغَالَبَتِهِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى الْقَوْلِ بِالشَّرِيكِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَغَيْرُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّه، حَيْثُ قَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لما فرغ من خلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْيَا مِنْ خَلْقِهَا فَاسْتَلْقَى وَاسْتَرَاحَ وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. [ق: ٣٨] وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّشْبِيهِ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الذَّوَاتِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ، وَتَنْزِيهُ صِفَاتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الصِّفَاتِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ الْكَرَّامِيَّةُ، وَتَنْزِيهُ أَفْعَالِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، أَعْنِي الْغَرَضَ وَالدَّاعِيَ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ خِلَافَ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَبَّارُ النَّعْتِ عَزِيزُ الْوَصْفِ فَالْأَوْهَامُ لَا تُصَوِّرُهُ وَالْأَفْكَارُ لَا تُقَدِّرُهُ وَالْعُقُولُ لَا تُمَثِّلُهُ وَالْأَزْمِنَةُ لَا تُدْرِكُهُ وَالْجِهَاتُ لَا تَحْوِيهِ وَلَا تَحُدُّهُ، صَمَدِيُّ الذَّاتِ سَرْمَدِيُّ الصِّفَاتِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>