للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِنْسَانُ هَاهُنَا وَلَدُ آدَمَ وَالطِّينُ هَاهُنَا اسْمُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسُّلَالَةُ هِيَ الْأَجْزَاءُ الطِّينِيَّةُ الْمَبْثُوثَةُ فِي أَعْضَائِهِ الَّتِي لَمَّا اجْتَمَعَتْ وَحَصَلَتْ فِي أَوْعِيَةِ الْمَنِيِّ صَارَتْ مَنِيًّا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَةِ: ٧، ٨] وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنْ فَضْلِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ تَنْتَهِي إِلَى النَّبَاتِيَّةِ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ صَفْوِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ فَالْإِنْسَانُ بِالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ السُّلَالَةَ بَعْدَ أَنْ تَوَارَدَتْ عَلَى أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ وَأَدْوَارِ الْفِطْرَةِ صَارَتْ مَنِيًّا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُطَابِقٌ لِلَّفْظِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّكَلُّفَاتِ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ وَمَعْنَى جَعْلِ الْإِنْسَانِ نُطْفَةً أَنَّهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا طِينًا، ثُمَّ جَعَلَ جَوْهَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ نُطْفَةً فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ فَقَذَفَهُ الصُّلْبُ بِالْجِمَاعِ إِلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ فَصَارَ الرَّحِمُ قَرَارًا مَكِينًا لِهَذِهِ النُّطْفَةِ وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ وَهُوَ الْمُسْتَقَرُّ فَسَمَّاهُ بِالْمَصْدَرِ ثُمَّ وَصَفَ الرَّحِمَ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا كَقَوْلِكَ طَرِيقٌ سَائِرٌ أَوْ لِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ مِنْ حَيْثُ هِيَ وَأُحْرِزَتْ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَيْ حَوَّلْنَا النُّطْفَةَ عَنْ صِفَاتِهَا إِلَى صِفَاتِ الْعَلَقَةِ وَهِيَ الدَّمُ الْجَامِدُ.

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ الدَّمَ الْجَامِدَ مُضْغَةً أَيْ قِطْعَةَ لَحْمٍ كَأَنَّهَا مِقْدَارُ مَا يُمْضَغُ كَالْغُرْفَةِ وَهِيَ مِقْدَارُ مَا يُغْتَرَفُ، وَسُمِّيَ التَّحْوِيلُ خَلْقًا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُفْنِي بَعْضَ أَعْرَاضِهَا وَيَخْلُقُ أعراضا غيرها فسمى خلق الأعراض خلقا لها وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ فِيهَا أَجْزَاءً زَائِدَةً.

الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أَيْ صَيَّرْنَاهَا كَذَلِكَ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ عَظْمًا وَالْمُرَادُ منه الجمع كقوله: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.

الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّحْمَ يَسْتُرُ الْعَظْمَ فَجَعَلَهُ كَالْكِسْوَةِ لَهَا.

الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أَيْ خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً/ مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ، وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ بَلْ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَكُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ عَجَائِبَ فِطْرَةٍ وَغَرَائِبَ حِكْمَةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا وَصْفُ الْوَاصِفِينَ، وَلَا شَرْحُ الشَّارِحِينَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: هُوَ تَصْرِيفُ اللَّه إِيَّاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فِي أَطْوَارِهِ فِي زَمَنِ الطُّفُولِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى اسْتِوَاءِ الشَّبَابِ، وَخَلْقِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَنْشَأْناهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ إِنْشَاءَ الرُّوحِ فِيهِ، وَإِتْمَامَ خَلْقِهِ إِنْشَاءً لَهُ قَالُوا فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّظَّامِ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الرُّوحُ لَا الْبَدَنُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِنْسَانَ شَيْءٌ لَا يَنْقَسِمُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَيْ فَتَعَالَى اللَّه فَإِنَّ الْبَرَكَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الِامْتِدَادِ وَالزِّيَادَةِ، وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>