للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنِّي أَذَاكُمْ وَمِثْلُهُ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٣] وَهُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَاطَبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّ الرُّسُلَ بِأَسْرِهِمْ لَوْ كَانُوا حَاضِرِينَ مُجْتَمِعِينَ لَمَا خُوطِبُوا إِلَّا بِذَلِكَ لِيَعْلَمَ رَسُولُنَا أَنَّ هَذَا التَّثْقِيلَ لَيْسَ عَلَيْهِ فَقَطْ، بَلْ لَازِمٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ إنما ذكر ذلك بعد ما ذَكَرَ مَكَانَهُ الْجَامِعَ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلِأَنَّهُ

رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ،

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلَفْظِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّهُ

رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّه أُخْتِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عِنْدَ فِطْرِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَرَدَّهُ الرَّسُولُ إِلَيْهَا وَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ فَقَالَتْ مِنْ شَاةٍ لِي، ثُمَّ رَدَّهُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الشَّاةُ؟ فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُهَا بِمَالِي فَأَخَذَهُ. ثُمَّ إِنَّهَا جَاءَتْهُ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه لِمَ رَدَدْتَهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ أُمِرَتِ الرُّسُلُ أَنْ لَا يَأْكُلُوا إِلَّا طَيِّبَا وَلَا يَعْمَلُوا إِلَّا صَالِحًا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ الطَّيِّباتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحَلَالُ وَقِيلَ طَيِّبَاتُ الرِّزْقِ حَلَالٌ وَصَافٍ وَقِوَامٍ فَالْحَلَالُ الَّذِي لَا يُعْصَى اللَّه فِيهِ، وَالصَّافِي الَّذِي لَا يُنْسَى اللَّه فِيهِ وَالْقِوَامَ مَا يُمْسِكُ النَّفْسَ وَيَحْفَظُ الْعَقْلَ وَالثَّانِي:

أَنَّهُ الْمُسْتَطَابُ الْمُسْتَلَذُّ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَبِمَا أَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِحَقِّهَا، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ كَمَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ سبحانه كما قال للمرسلين يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ فقال للمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاعْمَلُوا صالِحاً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِأَكْلِ الْحَلَالِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلرُّسُلِ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهِمْ فَبِأَنْ يَكُونَ تَحْذِيرًا لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَكَذَلِكَ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلَى الِاتِّقَاءِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّه تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةً فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمْ وَاحِدًا؟

قُلْنَا الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ مَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهَا لَا يُسَمَّى اخْتِلَافًا فِي الدِّينِ، فَكَمَا يُقَالُ فِي الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ/ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّ دِينَهُنَّ وَاحِدٌ وَإِنِ افْتَرَقَ تَكْلِيفُهُمَا فَكَذَا هَاهُنَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ دِينَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَاتِّقَاءِ مَعَاصِيهِ فَلَا مَدْخَلَ لِلشَّرَائِعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَإِنَّ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَإِنَّ بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مَرْفُوعَةٌ مَعَهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً فَالْمَعْنَى فَإِنَّ أُمَمَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَتَقَطَّعُوا معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين.

أما قوله زُبُراً فقرىء زُبُرًا جَمْعُ زَبُورٍ أَيْ كُتُبًا مُخْتَلِفَةً يَعْنِي جعلوا دينهم أديانا وزبرا قِطَعًا اسْتُعِيرَتْ مِنْ زُبَرِ الْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَزُبْرًا مخففة الباء كرسل فِي رُسُلٍ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَالْمَجُوسَ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>