للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أُمْهِلُوا حَتَّى تَمْكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ قَدْرَ لُبْثِهِمْ كَانَ يَسِيرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَهَذَا الْقَائِلُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا حَيَاةَ سِوَاهَا، فَلَمَّا أحياهم اللَّه تعالى في النار وعذبوا سألوا عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِأَنَّهُ إِلَى التَّوْبِيخِ أَقْرَبُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ اللُّبْثُ فِي حَالِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ الْكَوْنَ فِي الْقَبْرِ وَمَنْ كَانَ حَيًّا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ:

٥٦] ، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرُّومِ: ٥٥] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ:

٥٦] .

المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْلُهُ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ زَمَانَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً فَوْقَ الْأَرْضِ وَزَمَانَ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَلَوْ كَانُوا مُعَذَّبِينَ فِي الْقَبْرِ لَعَلِمُوا أَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ طَوِيلَةٌ فَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنما سألوا عَنْ مَوْتٍ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَذَابِ القبر والثاني: يحتمل أن يكونوا سألوا عَنْ قَدْرِ اللُّبْثِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِمُ الْحَفَظَةُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْصُونَ الْأَعْمَالَ وَأَوْقَاتَ الْحَيَاةِ وَيَحْسِبُونَ أَوْقَاتَ مَوْتِهِمْ وَتَقَدُّمَ مَنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخُّرَ مَنْ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ أَيْ الَّذِينَ يَحْسِبُونَ وَثَانِيهَا: فَاسْأَلِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَعُدُّونَ أَيَّامَ الدُّنْيَا وَسَاعَاتِهَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَلْ مَنْ يَعْرِفُ عَدَدَ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ نَسِينَاهُ وَرَابِعُهَا: قُرِئَ الْعَادِينَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ الظَّلَمَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مِثْلَ مَا قُلْنَا وَخَامِسُهَا:

قُرِئَ الْعَادِيِّينَ أَيْ الْقُدَمَاءِ الْمُعَمِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْصِرُونَهَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟

أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ صَدَقْتُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا أَنَّهَا انْقَضَتْ وَمَضَتْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُ قِلَّةِ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ أَيَّامِ الْآخِرَةِ.

فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَبَيَّنَ فِي هَذَا الوجه أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ قَلِيلٌ لَوْ عَلِمْتُمُ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ، لَكِنَّكُمْ لَمَّا أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ تُعِدُّونَهُ طَوِيلًا.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ فِي التَّوْبِيخِ أَعْظَمُ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَبَثاً حَالٌ أَيْ عَابِثِينَ كَقَوْلِهِ: لاعِبِينَ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ مَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْقِيَامَةِ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهَا وَهِيَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي وَالصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَلْقُ هَذَا الْعَالَمِ عَبَثًا، وَأَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>