للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُنَّ يَوْمَئِذٍ أَخْصَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَامَةٌ عَلَى بَابِهَا كَعَلَامَةِ الْبَيْطَارِ، لِيُعْرَفَ أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَرَغِبَ فِي كَسْبِهِنَّ نَاسٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالُوا نَتَزَوَّجُ بِهِنَّ إِلَى أَنْ يُغْنِيَنَا اللَّه عَنْهُنَّ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أُولَئِكَ الزَّوَانِي لَا يَنْكِحُونَ إِلَّا تِلْكَ الزَّانِيَاتِ، وَتِلْكَ الزَّانِيَاتُ لَا يَنْكِحُهُنَّ إِلَّا أُولَئِكَ الزَّوَانِي وَحُرِّمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ قَوْلَهُ:

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَإِنْ كَانَ خَبَرًا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ زَانِيًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْكِحَ إِلَّا زَانِيَةً وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَهَكَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا الوجه ذَكَرُوا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ بَاقٍ إِلَى الْآنِ حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَى الزَّانِي والزاني وَالزَّانِيَةِ التَّزَوُّجُ بِالْعَفِيفَةِ وَالْعَفِيفِ وَبِالْعَكْسِ وَيُقَالُ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ. فَيَقُولُ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالزَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ إِذَا زَنَتْ تَحْتَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ من يفصل لأن في جملة من يَمْنَعُ مِنَ التَّزْوِيجِ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ دَوَامِ النِّكَاحِ كَالْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهِ، فَعَنِ الْجُبَّائِيِّ أَنَّ نَاسِخَهُ هُوَ الْإِجْمَاعُ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النُّورِ: ٣٢] قَالَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ ضَعِيفَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ الْحَاصِلُ عَقِيبَ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَالْإِجْمَاعُ فِي هَذِهِ المسألة مَسْبُوقٌ بِمُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ فَكَيْفَ يَصِحُّ؟

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ فَهُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنَ النِّكَاحِ مِنْ سَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِ، كَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَزْوِيجُهَا مِنَ الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ، وَنَقُولُ إِنَّ لِلزِّنَا تَأْثِيرًا فِي الْفُرْقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا يُتْبِعُهَا بِالْفُرْقَةِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلِأَنَّ مِنْ حَقِّ الزِّنَا أَنْ يُورِثَ الْعَارَ وَيُؤَثِّرَ فِي الْفِرَاشِ فَفَارَقَ غَيْرَهُ. ثُمَّ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذَا النَّسْخَ، بِأَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؟ فَأَجَازَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشَبَّهَهُ بِمَنْ سَرَقَ ثَمَرَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ،

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ»

وَالْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. الوجه الرَّابِعُ: أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي وحرم الزنا على المؤمنين على وهذا تَأْوِيلُ أَبِي مُسْلِمٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا وَرَدَ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَلَمْ يَرِدِ الْبَتَّةَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ فَالْإِشْكَالُ عَائِدٌ، لِأَنَّا نَرَى أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَطَأُ الْعَفِيفَةَ حِينَ يَتَزَوَّجُ بِهَا وَلَوْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا الزَّانِيَةَ حِينَ يَكُونُ وَطْؤُهُ زِنًا فَهَذَا الْكَلَامُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ في الْمَقَامِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ؟ وَالْجَوَابُ: الْكَلَامُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْغَبَ فِي نِكَاحِ الزَّانِيَةِ غَيْرُ الزَّانِي فَلَا جَرَمَ بَيْنَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>