للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَقْلِيَّةَ عَلَى بُطْلَانِهِمَا أَيْضًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ اللُّطْفِ هَلْ يُرَجِّحُ الدَّاعِيَ أَوْ لَا يُرَجِّحُهُ فَإِنْ لَمْ يُرَجِّحْهُ الْبَتَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَعَلُّقٌ فَلَا يَكُونُ لُطْفًا، وَإِنْ رَجَّحَهُ فَنَقُولُ الْمُرَجَّحُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا إِلَى حَدِّ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ وُقُوعُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ أَوْ يُمْكِنَ أَوْ يَجِبَ، فَإِنِ امْتَنَعَ كَانَ مَانِعًا لَا دَاعِيًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَلْيُفْرَضْ تَارَةً وَاقِعًا وَأُخْرَى غَيْرَ وَاقِعٍ، فَامْتِيَازُ وَقْتِ الْوُقُوعِ عَنْ وَقْتِ اللَّاوُقُوعِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى انْضِمَامِ قَيْدٍ إِلَيْهِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْحَاصِلُ بَعْدَ انْضِمَامِ هَذَا الْقَيْدِ، فَلَا يَكُونُ الْحَاصِلُ أَوَّلًا مُرَجَّحًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ كَانَ اخْتِصَاصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوُقُوعِ وَالْآخَرِ بِاللَّاوُقُوعِ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا إِنَّ اللُّطْفَ مُرَجِّحًا مُوجِبًا كَانَ فَاعِلُ اللُّطْفِ فَاعِلًا لِلْمَلْطُوفِ فِيهِ، فَكَانَ تَعَالَى فَاعِلًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَفِعْلُ اللُّطْفِ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلَى الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَخَلْقُ/ الْأَلْطَافِ وَاجِبٌ فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ زَكِيًّا فَذَلِكَ واجب لأنه لو يُحْكَمْ بِهِ لَكَانَ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ؟ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ نَصٌّ فِي الْبَابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْمَعُ أَقْوَالَكُمْ فِي الْقَذْفِ وَأَقْوَالَكُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ، عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ مَحَبَّةِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ أَوْ مِنْ كَرَاهِيَتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ معصيته.

[[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]]

وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَدَّبَ أَهْلَ الْإِفْكِ وَمَنْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، فَكَذَلِكَ أَدَّبَ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ أَبَدًا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَرَابَتِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ قُومُوا فَلَسْتُمْ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكُمْ وَلَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ مِسْطَحٌ أَنْشُدُكَ اللَّه وَالْإِسْلَامَ وَأَنْشُدُكَ الْقُرَابَةَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تُحْوِجَنَا إِلَى أَحَدٍ، فَمَا كَانَ لَنَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذَنْبٍ، فَقَالَ لِمِسْطَحٍ إِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ فَقَدْ ضَحِكْتَ! فَقَالَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْ قَوْلِ حَصَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَقَالَ انْطَلِقُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَلْ لَكُمْ عُذْرًا وَلَا فَرَجًا، فَخَرَجُوا لَا يدرون أين يذهبون وأن يَتَوَجَّهُونَ مِنَ الْأَرْضِ، فَبَعَثَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا يَنْهَاكَ فِيهِ أَنْ تُخْرِجَهُمْ فَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ وَسَرَّهُ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُغْفَرَ لِي، وَقَدْ تَجَاوَزْتُ عَمَّا كَانَ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى بَيْتِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى مِسْطَحٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ قَبِلْتُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ بِكُمْ مَا فَعَلْتُ إِذْ سَخِطَ اللَّه عَلَيْكُمْ، أَمَّا إِذَا عَفَا عَنْكُمْ فَمَرْحَبًا بِكُمْ، وَجَعَلَ لَهُ مِثْلَيْ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنِ ائْتَلَى إِذَا حَلَفَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَحْلِفُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: / أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى الْإِعْطَاءِ وَهُمْ أَرَادُوا الْمَنْعَ مِنَ الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْإِعْطَاءِ، فَهَذَا الْمُتَأَوِّلُ قَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>