للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَهُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يَعْنِي عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَيَسَارٌ (غُلَامُ عَامِرِ) «١» بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَيُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مِنْهَا فَلَمَّا أَسْلَمُوا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَهَّدُهُمْ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّضْرُ مَا قَالَ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إِنَّمَا يَكْفِي جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُمُ النِّهَايَةُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَقَدْ بَلَغُوا فِي الْحِرْصِ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِهِ كُلَّ غَايَةٍ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى مَا وَصَفُوهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَوْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ لَفَعَلُوا، وَلَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يَبْلُغُوا مُرَادَهُمْ فِيهِ مِمَّا أَوْرَدُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوِ اسْتَعَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِهِ لَأَمْكَنَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَفِي الْمَكِنَةِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الْفَصَاحَةِ وَانْتَهَى إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ فِي الْقُرْآنِ وَظَهَرَ بِسَبَبِهَا سُقُوطُ هَذَا السُّؤَالِ، ظَهَرَ أَنَّ إِعَادَةَ هَذَا السُّؤَالِ بَعْدَ تَقَدُّمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلتَّمَادِي فِي الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفَى اللَّه فِي الْجَوَابِ بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ تعالى: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أَيْ أَتَوْا ظُلْمًا وَكَذِبًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ:

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مَرْيَمَ: ٨٩] فَانْتَصَبَ بِوُقُوعِ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ جَاءُوا بِالظُّلْمِ وَالزُّورِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ كَلَامَهُمْ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَبِأَنَّهُ زُورٌ، أَمَّا أَنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأَنَّهُمْ نَسَبُوا هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ إِلَى مَنْ كَانَ مُبَرَّأً عَنْهُ، فَقَدْ وَضَعُوا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ هُوَ الظُّلْمُ، وَأَمَّا الزُّورُ فَلِأَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الظُّلْمُ تَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ، وَالزُّورُ كَذِبُهُمْ عَلَيْهِمْ.

الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْأَسَاطِيرُ مَا سَطَّرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ كَأَحَادِيثِ رُسْتُمَ وَأسفنديَارَ، جَمْعُ أَسْطَارٍ أَوْ أُسْطُورَةٍ كَأُحْدُوثَةٍ اكْتَتَبَها انْتَسَخَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْنِي عامرا ويسارا وجبرا، ومعنى اكتتب هاهنا أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ كَمَا يُقَالُ احْتَجَمَ وَافْتَصَدَ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا كُتِبَتْ لَهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ فَهِيَ تُلْقَى عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ لِيَحْفَظَهَا لِأَنَّ صُورَةَ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْحَافِظِ كَصُورَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى الْكَاتِبِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: بُكْرَةً وَأَصِيلًا قَالَ الضَّحَّاكُ مَا يُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ عَشِيَّةً، وَمَا يُمْلَى عَلَيْهِ عَشِيَّةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ بُكَرَةً.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ قَوْلُهُ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا كَلَامُ اللَّه ذَكَرَهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُمْلَى عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الأولين، وأما جمهور


(١) في الكشاف (مولى العلاء) ٣/ ٨١ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>