للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُهُ: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ مِنْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وَشَرْطُ حُسْنِهِ صِحَّةُ الْمَعْنَى، ولقد جاء هاهنا زَائِدًا عَلَى الصِّحَّةِ فَحَسُنَ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَكَانَ (بِنَبَأٍ) بِخَبَرٍ لَكَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، وَلَكِنَّ لَفْظَ النَّبَأِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يُطَابِقُهَا وَصْفُ الْحَالِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ فَالْمَرْأَةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكُ أَرْضِ الْيَمَنِ وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ رَاجِعٌ إِلَى سَبَأٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْقَوْمُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أريدت المدين فَمَعْنَاهُ تَمْلِكُ أَهْلَهَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ قَالَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ قَوْلِ سليمان وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ١٦] فَكَأَنَّ الْهُدْهُدَ سَوَّى بَيْنَهُمَا جَوَابُهُ: أَنَّ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْجِعُ إِلَى مَا أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْهُدْهُدِ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ اسْتَعْظَمَ الْهُدْهُدُ عَرْشَهَا مَعَ مَا كَانَ يَرَى مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ؟ وَأَيْضًا فَكَيْفَ سَوَّى بَيْنِ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّه تَعَالَى فِي الْوَصْفِ بِالْعَظِيمِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ:

يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْغِرَ حَالَهَا إِلَى حَالِ سُلَيْمَانَ فَاسْتَعْظَمَ لَهَا ذَلِكَ الْعَرْشَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ مَعَ جَلَالَتِهِ مِثْلُهُ كَمَا قَدْ يَتَّفِقُ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عُرُوشِ أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ وَوَصْفَ عَرْشِ اللَّه بِالْعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى سائر ما خلق من السموات والأرض، واعلم أن هاهنا بَحْثَيْنِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَلَاحِدَةَ طَعَنَتْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَنَّ النَّمْلَةَ وَالْهُدْهُدَ تَكَلَّمَا بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي النَّمْلَةِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، أَنْ تَكُونَ أَعْلَمَ بِالْهَنْدَسَةِ مِنْ إِقْلِيدِسَ، وَبِالنَّحْوِ مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَمْلَةِ وَالصِّئْبَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمُ/ الْأَنْبِيَاءُ وَالتَّكَالِيفُ وَالْمُعْجِزَاتُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كَانَ إِلَى الْجُنُونِ أَقْرَبَ وَثَانِيهَا: أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِالشَّامِ فَكَيْفَ طَارَ الْهُدْهُدُ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ اللَّطِيفَةِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ؟ وَثَالِثُهَا: كَيْفَ خَفِيَ عَلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ مِثْلِ تِلْكَ الْمَلِكَةِ الْعَظِيمَةِ مَعَ مَا يُقَالُ إِنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ كَانُوا فِي طَاعَةِ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَلِكَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَكَانَ تَحْتَ رَايَةِ بِلْقِيسَ عَلَى مَا يُقَالُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلِكٍ تَحْتَ رَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمَعَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ بَلْدَةِ بِلْقِيسَ حَالَ طَيَرَانِ الْهُدْهُدِ إِلَّا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرَابِعُهَا: مَنْ أَيْنَ حَصَلَ لِلْهُدْهُدِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَوُجُوبُ السُّجُودِ لَهُ وَإِنْكَارُ سُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَزْيِينُهُ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي أَوَّلِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَنِ الْبَوَاقِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِافْتِقَارِ الْعَالَمِ إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ يُزِيلُ هَذِهِ الشُّكُوكَ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ بَعْدَ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ وَلِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْرِدَ الذَّمِّ وَلِأَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>