للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُرِئَ أَنُ اعْبُدُوا اللَّهَ بِالضَّمِّ عَلَى اتْبَاعِ النُّونِ الْبَاءَ «١» .

أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ فَرِيقٌ مُؤْمِنٌ وَفَرِيقٌ كَافِرٌ الثَّانِي: الْمُرَادُ قَوْمُ صَالِحٍ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ: يَخْتَصِمُونَ فَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا آمَنُوا لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي حُجَّتِهِ فَعَرَفُوا صِحَّتَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِمَنْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاخْتِصَامُ فِي بَابِ الدِّينِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي بَابِ الدِّينِ حَقٌّ وَفِيهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ.

أَمَّا قوله: يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ اسْتِعْجَالِ السَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْحِجَاجُ تَوَعَّدَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَذَابِ فَقَالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٩] عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَعِنْدَهُ قَالَ صَالِحٌ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ مَكَّنَكُمْ مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَثَوَابِهِ، فَلِمَاذَا تَعْدِلُونَ عَنْهُ إِلَى اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ وَثَانِيهِمَا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِجَهْلِهِمْ إِنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي يَعِدُهَا صَالِحٌ إِنْ وَقَعَتْ عَلَى زَعْمِهِ أَتَيْنَا حِينَئِذٍ وَاسْتَغْفَرْنَا فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ اللَّه تَوْبَتَنَا وَيَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنَّا، فَخَاطَبَهُمْ صَالَحٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ، وَقَالَ هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّه قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ الْخَيْرِ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْجَالِ الشَّرِّ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الْعِقَابُ وَبِالْحَسَنَةِ الثَّوَابُ، فَأَمَّا وَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ سَيِّئَةٌ فَهُوَ مَجَازٌ وَسَبَبُ هَذَا التَّجْوِيزِ، إِمَّا لِأَنَّ الْعِقَابَ مِنْ لَوَازِمِهِ أَوْ لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا وَصْفُ الرَّحْمَةِ بِأَنَّهَا حَسَنَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَجَازٌ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، ثُمَّ إِنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَّرَ هَذَا الْكَلَامَ الْحَقَّ أَجَابُوهُ بِكَلَامٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اطَّيَّرْنا بِكَ أَيْ/ تَشَاءَمْنَا بِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُصِيبُنَا مِنْ شِدَّةٍ وَقَحْطٍ فَهُوَ بِشُؤْمِكَ وَبِشُؤْمِ مَنْ مَعَكَ.

قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُسَافِرًا فَيَمُرُّ بِطَائِرٍ فَيَزْجُرُهُ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا تَيَمَّنَ وَإِنْ مَرَّ بَارِحًا تَشَاءَمَ فَلَمَّا نَسَبُوا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَى الطَّائِرِ اسْتُعِيرَ لِمَا كَانَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ قَدَرُ اللَّه وَقِسْمَتُهُ، فَأَجَابَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ السَّبَبُ الَّذِي مِنْهُ يَجِيءُ خَيْرُكُمْ وَشَرُّكُمْ عِنْدَ اللَّه وَهُوَ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ إِنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ وَإِنْ شَاءَ حَرَمَكُمْ وَقِيلَ بَلِ الْمُرَادُ إِنَّ جَزَاءَ الطِّيَرَةِ مِنْكُمْ عِنْدَ اللَّه وَهُوَ الْعِقَابُ، وَالْأَقْرَبُ الوجه الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَشَارُوا إِلَى الْأَمْرِ الْحَاصِلِ فَيَجِبُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ غَيْرَهُمْ دَعَاهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفْتِنُكُمْ بِوَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تِسْعَةَ جَمْعٍ إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ الرَّهْطِ الْجَمَاعَةُ لَا الْوَاحِدُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبَائِلَ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت


(١) الاتباع هنا ليس للباء التي في اعبدوا لوجود الفاصل وهو العين والهمزة، والصواب أن يقال على إتباع النون للألف من اعبدوا لأن الأمر من عبد أعبد مضموم الألف.

<<  <  ج: ص:  >  >>