للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَبَايَنُوا، وَقَالَ آخَرُونَ أَرَادَ بِهِ مَا حَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَرَادَ بِهِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ إِنَّا لَمَّا تَأَمَّلْنَا الْقُرْآنَ فَوَجَدْنَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَشْرِ وَالنُّبُوَّةِ، وَشَرْحِ صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى وَبَيَانِ نُعُوتِ جَلَالِهِ مَا لَمْ نَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ، وَوَجَدْنَا مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ مُطَابِقَةً لِلْعُقُولِ مُوَافِقَةً لَهَا، وَوَجَدْنَاهُ مُبَرَّأً عَنِ التَّنَاقُضِ وَالتَّهَافُتِ، فَكَانَ هُدَىً وَرَحْمَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَوَجَدْنَا الْقُوَى البشرية قاصرة عن جَمْعِ كِتَابٍ عَلَى هَذَا الوجه، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ هُدَىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِبُلُوغِهِ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَذَلِكَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى الرِّسَالَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، لَكِنْ لَا تَكُنْ أَنْتَ فِي قَيْدِهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ، أَيْ بَيْنَ الْمُصِيبِ وَالْمُخْطِئِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالزَّجْرِ لِلْكُفَّارِ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُمْنَعُ الْعَلِيمُ بِمَا يَحْكُمُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا الْحَقُّ، فَإِنْ قِيلَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ شَيْءٌ واحد فقوله: يقضي بِحُكْمِهِ كَقَوْلِهِ يَقْضِي بِقَضَائِهِ وَيَحْكُمُ بِحُكْمِهِ وَالْجَوَابُ:

مَعْنَى قَوْلِهِ: بِحُكْمِهِ أَيْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ وَهُوَ عَدْلُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ، أَوْ أَرَادَ بِحُكْمِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بِحِكَمِهِ) جَمْعُ حِكْمَةٍ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّةِ رِسَالَتِهِ بِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّه، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى أَعْدَاءِ اللَّه، وَيَشْرَعَ فِي تَمْشِيَةِ مُهِمَّاتِ الرِّسَالَةِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَقَالَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُحِقَّ حَقِيقٌ بِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُخْذَلُ وَثَانِيهِمَا:

قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَإِنَّمَا حَسُنَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِلْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يَطْمَعُ فِي أَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى إِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِذَا قَطَعَ طَمَعَهُ عَنْهُ قَوِيَ قَلْبُهُ عَلَى إِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَطَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ كَالْمَوْتَى وَكَالصُّمِّ وَكَالْعُمْيِ فَلَا يَفْهَمُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَهَذَا سَبَبٌ لِقُوَّةِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ كَمَا يَنْبَغِي، فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ جَوَابُهُ: هُوَ تَأْكِيدٌ لِحَالِ الْأَصَمِّ، لِأَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَ عَنِ الدَّاعِي بِأَنْ تَوَلَّى عَنْهُ مُدْبِرًا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ إِدْرَاكِ صَوْتِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَالْمَعْنَى مَا يُجْدِي إِسْمَاعُكَ إِلَّا الَّذِينَ عَلِمَ اللَّه أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، أَيْ يُصَدِّقُونَ بِهَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ، أَيْ مُخْلِصُونَ مِنْ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ

[الْبَقَرَةِ:

١١٢] / يَعْنِي جَعَلَهُ سَالِمًا للَّه تَعَالَى خَالِصًا لَهُ، واللَّه أعلم.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]

وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>