للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَطْلُبُ نُصْرَتَهُ بِصِيَاحٍ وَصُرَاخٍ، قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغَوِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ أَيْ إِنَّكَ لَمُغْوٍ لِقَوْمِي فَإِنِّي وَقَعْتُ بِالْأَمْسِ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ بِسَبَبِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْغَاوِي.

وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَدَحَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ كَيْفَ يَجُوزُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لِرَجُلٍ مَنْ شِيعَتِهُ يَسْتَصْرِخُهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ؟ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا غِلَاظًا جُفَاةً أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] فَالْمُرَادُ بِالْغَوِيِّ الْمُبِينِ ذَلِكَ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا سَمَّاهُ غَوِيًّا لِأَنَّ مَنْ تَكْثُرُ مِنْهُ الْمُخَاصَمَةُ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ دَفْعُ خَصْمِهِ عَمَّا يَرُومُهُ مِنْ ضَرَرِهِ يَكُونُ خِلَافَ طَرِيقَةِ الرُّشْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ أَهْوَ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّ أَوِ الْقِبْطِيِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمَّا خَاطَبَ مُوسَى الْإِسْرَائِيلِيَّ بِأَنَّهُ غَوِيٌّ وَرَآهُ عَلَى غَضَبٍ ظَنَّ لَمَّا هَمَّ بِالْبَطْشِ أَنَّهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَتْلَهُ بِالْأَمْسِ لِلرَّجُلِ إِلَّا هُوَ، وَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْقَتْلِ وَمَزِيدِ الْخَوْفِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُوَ/ قَوْلُ الْقِبْطِيِّ، وَقَدْ كَانَ عَرَفَ الْقِصَّةَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَالظَّاهِرُ هَذَا الوجه لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى فَهَذَا الْقَوْلُ إِذَنْ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلًا لِلْكَافِرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَبَّارَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ بِظُلْمٍ لَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ وَلَا يَدْفَعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَقِيلَ الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا يَتَوَاضَعُ لِأَمْرِ أَحَدٍ، وَلَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ انْتَشَرَ الْحَدِيثُ فِي الْمَدِينَةِ وَانْتَهَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يَسْعَى يَجُوزُ ارتفاعه وصفا لرجل، وَانْتِصَابُهُ حَالًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَصَّصَ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالِائْتِمَارُ التَّشَاوُرُ يُقَالُ الرَّجُلَانِ [يتآمران] «١» يَأْتَمِرَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْمُرُ صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ أَوْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ وَالْمَعْنَى يَتَشَاوَرُونَ بِسَبَبِكَ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، فَعَلَى وَجْهِ الْإِشْفَاقِ أَسْرَعَ إِلَيْهِ لِيُخَوِّفَهُ بِأَنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أَيْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَنْتَظِرُ هَلْ يَلْحَقُهُ طَلَبٌ فَيُؤْخَذُ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ سِوَاهُ فَقَالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ لِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَنْبًا، وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الظَّالِمُ لَهُمْ وَمَا كَانُوا ظَالِمِينَ لَهُ بِسَبَبِ طَلَبِهِمْ إِيَّاهُ ليقتلوه قصاصا.

[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)

قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨)


(١) زيادة من الكشاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>