للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَتْ عَادَتُهُ مَتَى ظَهَرَتْ حُجَّةُ مُوسَى أَنْ يَتَعَلَّقَ فِي دَفْعِ تِلْكَ الحجة بِشُبْهَةٍ يُرَوِّجُهَا عَلَى أَغْمَارِ قَوْمِهُ وَذَكَرَ هاهنا شُبْهَتَيْنِ الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ إِلَهٍ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ إِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى أَنَّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ، أَمَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ وَالْأَفْلَاكَ كَافِيَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ، وَأَمَّا أَنَّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُهُ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى كَاذِبَةٌ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَفْنَا بِالدَّلِيلِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ عَرَفْنَا حُدُوثَ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَعَرَفْنَا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُحْدَثَ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ فَحِينَئِذٍ نَعْرِفُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَهُ صَانِعٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّ جَمَاعَةً اعْتَمَدُوا فِي نَفْيِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنْ قَالُوا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ، قَالُوا وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا دَلِيلَ لِأَنَّا بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَرَجَعَ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعَرَفُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَجَبَ نَفْيُهُ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْطَعْ بِالنَّفْيِ بَلْ قَالَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا أُثْبِتُهُ بَلْ أَظُنُّهُ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَفِرْعَوْنُ عَلَى نِهَايَةِ جَهْلِهِ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْمُسْتَدِلِّ. أَمَّا الثَّانِي وَهُوَ إِثْبَاتُهُ إِلَهِيَّةَ نَفْسِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يدعي كونه خالقا للسموات وَالْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَخَالِقًا لِذَوَاتِ النَّاسَ وَصِفَاتِهِمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ الْعُقُولِ فَالشَّكُّ فِيهِ يَقْتَضِي زَوَالَ الْعَقْلِ، بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ فَالرَّجُلُ كَانَ يَنْفِي الصَّانِعَ وَيَقُولُ لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُطِيعُوا مَلِكَهُمْ وَيَنْقَادُوا لِأَمْرِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ ادِّعَائِهِ الْإِلَهِيَّةَ لَا مَا ظَنَّهُ الْجُمْهُورُ مِنَ ادِّعَائِهِ كَوْنَهُ خَالِقًا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي سُورَةِ طه [٤٩] فِي تَفْسِيرِ قوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا باللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ تَرْوِيجًا عَلَى الْأَغْمَارِ مِنَ الناس الشبهة الثانية: قوله: فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ وهاهنا أَبْحَاثٌ:

الْأَوَّلُ: تَعَلَّقَتِ الْمُشَبِّهَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى فِي السَّمَاءِ قَالُوا لَوْلَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ لَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا الْقَوْلَ وَالْجَوَابُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلَّ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: / رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: ٢٤] وَلَمْ يَقُلْ هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، فَأُوهِمَ فِرْعَوْنُ أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ إِلَهَهُ فِي السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خُبْثِ فِرْعَوْنَ وَمَكْرِهِ وَدَهَائِهِ.

الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ فِرْعَوْنَ هل بنى هذا الصرح؟ قال قَوْمٌ إِنَّهُ بَنَاهُ قَالُوا إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ جَمَعَ هَامَانُ الْعُمَّالَ حَتَّى اجْتَمَعَ خَمْسُونَ أَلْفَ بَنَّاءٍ سِوَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَأَمَرَ بِطَبْخِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَنَجْرِ الْخَشَبِ وَضَرْبِ الْمَسَامِيرِ فَشَيَّدُوهُ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، فَبَعَثَ اللَّه تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَضَرَبَهُ بِجَنَاحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ قِطْعَةٌ وَقَعَتْ عَلَى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ فَقَتَلَتْ أَلْفَ أَلْفَ رَجُلٍ وَقِطْعَةٌ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ وَقِطْعَةٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ عُمَّالِهِ إِلَّا وَقَدْ هَلَكَ،

وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ ارْتَقَى فَوْقَهُ وَرَمَى بِنُشَّابَةٍ نَحْوَ السَّمَاءِ فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يَفْتِنَهُمْ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمْ وَهِيَ مَلْطُوخَةٌ بِالدَّمِ، فَقَالَ قَدْ قَتَلْتُ إِلَهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>