للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ لِمَنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، بَلْ هِيَ لِلْمُتَّقِينَ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فَقَالَ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وفيه وجوه أحدهما: الْمَعْنَى مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ حَصَلَ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ خَيْرٌ وَثَانِيهَا: حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْحَسَنَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُزَادُونَ عَلَى ثَوَابِهِمْ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي آخِرِ النَّمْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يُزَادُوا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ. / وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَاتِ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَسَنَاتِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ عَلَى الثَّوَابِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَكِنَّهُ كَرَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِ عَمَلِ السَّيِّئَةِ إِلَيْهِمْ مُكَرَّرًا فَضْلَ تَهْجِينٍ لِحَالِهِمْ وَزِيَادَةَ تَبْغِيضٍ لِلسَّيِّئَةِ إِلَى قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا، وَيَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وهاهنا سُؤَالَانِ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] كَرَّرَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِسَاءَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ كَرَّرَ ذِكْرَ الْإِسَاءَةِ مَرَّتَيْنِ وَاكْتَفَى فِي ذِكْرِ الْإِحْسَانِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَا السَّبَبُ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ التَّرْغِيبِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَكَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَائِقَةً بِهَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ شَرْحُ حَالِهِمْ فَكَانَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِهِمْ أَوْلَى.

السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ: لَا تُجْزَى السَّيِّئَةُ إِلَّا بِمِثْلِهَا؟ مَعَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا مَاتَ فِي الْحَالِ عُذِّبَ أَبَدَ الْآبَادِ وَالْجَوَابُ: لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَقَالَ ذَلِكَ فَعُومِلَ بِمُقْتَضَى عَزْمِهِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ:

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ عَذَابًا دَائِمًا بِغَيْرِ جُرْمٍ، قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ لِرَسُولِهِ أَمْرَ الْقِيَامَةِ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ، شَرَحَ لَهُ مَا يَتَّصِلُ بِأَحْوَالِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ لَرَادُّكَ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى مَعَادٍ، وَتَنْكِيرُ الْمَعَادِ لِتَعْظِيمِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ إِلَى مَعَادٍ وَأَيُّ مَعَادٍ، أَيْ لَيْسَ لِغَيْرِكَ مِنَ الْبَشَرِ مِثْلُهُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَكَّةُ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُرَادَ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا يَوْمُ الْفَتْحِ، وَوَجْهُ تَنْكِيرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَادًا لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ لاستيلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَقَهْرِهِ لِأَهْلِهَا وَإِظْهَارِ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِ حِزْبِ الْكُفْرِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ فِي أَذًى وَغَلَبَةٍ مِنْ أَهْلِهَا أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْهَا وَيُعِيدُهُ إِلَيْهَا ظَاهِرًا ظَافِرًا.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ مِنَ الْغَارِ وَسَارَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا أَمِنَ رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ وَنَزَلَ بِالْجُحْفَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَعَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ وَاشْتَاقَ إِلَيْهَا وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَمَوْلِدَ أَبِيهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: تَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ

يَعْنِي إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>