للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْأَحْسَنِ مُعَلَّقٌ عَلَيْهَا وَهِيَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِثَالُ هَذَا شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ لَا شَكَّ فِي أَنَّ عُرُوقَهَا وَأَغْصَانَهَا مِنْهَا، وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَالتُّرَابُ الَّذِي حَوَالَيْهَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا لَكِنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا الشَّجَرَةُ لَوِ احْتَفَّتْ بِهَا الْحَشَائِشُ الْمُفْسِدَةُ وَالْأَشْوَاكُ الْمُضِرَّةُ يَنْقُصُ ثَمَرَةُ الشَّجَرَةِ وَإِنْ غَلَبَتْهَا عُدِمَتِ الثَّمَرَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَدَتْ فَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ تَفْعَلُ بِالْإِيمَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُفَ: ١٧] أَيْ بِمُصَدِّقٍ وَاخْتُصَّ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ بِالتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ مَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ إِنْ عُلِمَ مُفَصَّلًا أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ عِنْدَنَا كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ صَارَ صَالِحًا بِأَمْرِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَمَا كَانَ صَالِحًا فَلَيْسَ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ مِنْ لَوَازِمَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَالصِّدْقُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ وَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لِذَلِكَ، فَعِنْدَنَا الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِنْدَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْمَسْأَلَةُ بِطُولِهَا فِي [كُتُبِ] الْأُصُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ بَاقٍ لِأَنَّ الصَّالِحَ فِي مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ وَالْفَاسِدُ هُوَ الْهَالِكُ التَّالِفُ، يُقَالُ فَسَدَتِ الزُّرُوعُ إِذَا هَلَكَتْ أَوْ خَرَجَتْ عَنْ دَرَجَةِ الِانْتِفَاعِ وَيُقَالُ هِيَ بَعْدُ صَالِحَةٌ أَيْ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي. إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَبْقَى بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ، وَلَا يَبْقَى بِالْعَامِلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ فَبَقَاؤُهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ بَاقٍ، لَكِنَّ الْبَاقِيَ هُوَ وَجْهُ اللَّهِ/ لِقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يَبْقَى فَيَكُونَ صَالِحًا، وَمَا لَا يَكُونُ لِوَجْهِهِ لَا يبقى لا بنفسه ولا بالعمل وَلَا بِالْمَعْمُولِ لَهُ فَلَا يَكُونُ صَالِحًا، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ مُخْلِصًا لِلَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهِيَ قَصْدُ الْإِيقَاعِ لِلَّهِ، وَيَنْدَرِجُ فِيهَا النِّيَّةُ فِي الصَّوْمِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَفِي الْوُضُوءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ مرفوع لقوله تعالى: الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: ١٠] لَكِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ فَإِنَّهُ يَصْعَدُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: ١٠] وَهُوَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ فَالْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ لَا يقبل، ولهذا قدم الإيمان على العمل، وهاهنا لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُكَلَّفِ ثَلَاثَةٌ عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ فِكْرُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَتَصْدِيقُهُ، وَعَمَلُ لِسَانِهِ وَهُوَ ذِكْرُهُ وَشَهَادَتُهُ، وَعَمَلُ جَوَارِحِهِ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَعِبَادَتُهُ.

فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تَرْتَفِعُ بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ بِغَيْرِهَا، وَالْقَوْلُ الصَّادِقُ يَرْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْفِكْرُ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَمَا

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ»

وَالتَّائِبُ النَّادِمُ بِقَلْبِهِ، وَكَذَلِكَ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم»

يعني بالكفرة فِي عَجْزِهِ وَقُدْرَتِي وَحَقَارَتِهِ وَعَظَمَتِي وَمِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ مَنْ تَفَكَّرَ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَجَدَ اللَّهَ وَحَضَرَ ذِهْنُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِ الْقَلْبِ يَأْتِي اللَّهَ وَعَمَلُ اللِّسَانِ يَذْهَبُ إِلَى اللَّهِ وَعَمَلُ الْأَعْضَاءِ يُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ عَمَلِ الْقَلْبِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْعَبْدِ نَوْعَيْنِ: الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهِمَا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ أَمْرَيْنِ تَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ وَالْجَزَاءَ بِالْأَحْسَنِ حَيْثُ قَالَ: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ فَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ، وَالْجَزَاءُ بِالْأَحْسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أُمُورًا الْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُ لا

<<  <  ج: ص:  >  >>