للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَعْمَالُهُمْ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْمُولُ لَهُ وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ بَاقٍ، وَالْعَامِلُونَ بَاقُونَ بِبَقَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ فِي الدُّنْيَا بَقَاءَ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَفِي الْآخِرَةِ بَقَاءَ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّالِحِينَ أَوْ فِي دَارِ الصَّالِحِينَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ بَلْ يُدْخِلُهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ يَجْعَلُهُمْ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ فِي عِدَادِهِمْ كَمَا يُقَالُ الْفَقِيهُ دَاخِلٌ فِي الْعُلَمَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْحُكَمَاءُ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ عَالَمُ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَمَا فِيهِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَاءً وَيَفْسُدُ وَيَتَكَوَّنُ مِنْهُ هواء، وعالم السموات لَا كَوْنَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ بَلْ يُوجَدُ مِنْ عَدَمٍ وَلَا يَعْدَمُ وَلَا يَصِيرُ الْمَلَكُ تُرَابًا بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ تُرَابًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ وَعَلَى هَذَا فَالْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لَيْسَ بِفَاسِدٍ فَهُوَ صَالِحٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أَيْ فِي الْمُجَرَّدِينَ الَّذِينَ لَا فَسَادَ لهم. ثم قال تعالى:

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٠ الى ١١]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)

نَقُولُ أَقْسَامُ الْمُكَلَّفِينَ ثَلَاثَةٌ مُؤْمِنٌ ظَاهِرٌ بِحُسْنٍ اعْتِقَادِهِ، وَكَافِرٌ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ، وَمُذَبْذَبٌ بَيْنَهُمَا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي فُؤَادِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٣] وَبَيَّنَ أَحْوَالَهُمَا بِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إِلَى قَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العنكبوت: ٤- ٧] بَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّالِثَ وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا وَلَمْ يَقُلْ آمَنْتُ مَعَ أَنَّهُ وَحَّدَ الْأَفْعَالَ الَّتِي بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ كَانَ يُشَبِّهُ/ نَفْسَهُ بِالْمُؤْمِنِ، وَيَقُولُ إِيمَانِي كَإِيمَانِكَ فَقَالَ: آمَنَّا يَعْنِي أَنَا وَالْمُؤْمِنُ حَقًّا آمَنَّا، إِشْعَارًا بِأَنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَبَانَ الضَّعِيفَ إِذَا خَرَجَ مَعَ الْأَبْطَالِ فِي الْقِتَالِ، وَهَزَمُوا خُصُومَهُمْ يَقُولُ الْجَبَانُ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَاهُمْ وَهَزَمْنَاهُمْ، فَيَصِحُّ مِنَ السَّامِعِ لِكَلَامِهِ أَنْ يَقُولَ وَمَاذَا كُنْتَ أَنْتَ فِيهِمْ حَتَّى تَقُولَ خَرَجْنَا وَقَاتَلْنَا؟ وَهَذَا الرَّدُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ خُرُوجَهُ وَقِتَالَهُ كَخُرُوجِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى نَفْسِ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ، وَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَنَا وَالْمَلِكُ أَلْفَيْنَا فُلَانًا وَاسْتَقْبَلْنَاهُ يُنْكَرُ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْمُسَاوَاةُ فَهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِظْهَارَ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ كَإِيمَانِ الْمُحِقِّينَ كَانَ الْوَاحِدُ يَقُولُ: آمَنَّا أَيْ أَنَا وَالْمُحِقُّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥] غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْآيَةِ الصَّابِرُونَ على أذية الكافرين والمراد هاهنا الَّذِينَ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهَا فَقَالَ هُنَاكَ: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران: ١٩٥] وقال هاهنا: أُوذِيَ فِي اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّطِيفَةُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَيَانَ شَرَفِ الْمُؤْمِنِ الصَّابِرِ وَخِسَّةَ الْمُنَافِقِ الْكَافِرِ فَقَالَ هُنَاكَ أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَتْرُكَ سَبِيلَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ، وَأُوذِيَ الْمُنَافِقُ الْكَافِرُ فَتَرَكَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ إن بلغ

<<  <  ج: ص:  >  >>