للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي الْآيَةِ لَطِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، / لَكِنَّ الْبِشَارَةَ أَثَرُ الرَّحْمَةِ وَالْإِنْذَارَ بِالْإِهْلَاكِ أَثَرُ الْغَضَبِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِنْذَارِ. وَقَالَ: جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ثم قال:

إِنَّا مُهْلِكُوا الثَّانِيَةُ: حِينَ ذَكَرُوا الْبُشْرَى مَا عَلَّلُوا وَقَالُوا إِنَّا نُبَشِّرُكَ لِأَنَّكَ رَسُولٌ، أَوْ لِأَنَّكَ مُؤْمِنٌ أَوْ لِأَنَّكَ عَادِلٌ، وَحِينَ ذَكَرُوا الْإِهْلَاكَ عَلَّلُوا، وَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ لَا يَكُونُ فَضْلُهُ بِعِوَضٍ، وَالْعَادِلُ لَا يَكُونُ عَذَابُهُ إِلَّا عَلَى جُرْمٍ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَالَ قَائِلٌ أَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذِهِ الْبُشْرَى بِهَذَا الْإِنْذَارِ، نَقُولُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ قَوْمٍ وَكَانَ فِيهِ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ عَنِ الْعِبَادِ قَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِعْلَامَ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ حَتَّى لَا يَتَأَسَّفَ عَلَى إِهْلَاكِ قَوْمٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: ١٤] وَقَدْ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وهاهنا قَالَ: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ وَلَمْ يَقُلْ وَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَنَقُولُ لَا فَرْقَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي كَوْنِهِمْ مُهْلَكِينَ وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الظُّلْمِ، لَكِنْ هُنَاكَ الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ وَعَنِ الْمَاضِي حَيْثُ قَالَ: فَأَخَذَهُمُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، فَقَالَ أَخَذَهُمْ وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وهاهنا الْإِخْبَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ الْمُسْتَقْبَلِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا فَالْمَلَائِكَةُ ذَكَرُوا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي إِبَانَةِ حُسْنِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ بِالْإِهْلَاكِ، فَقَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا، وَحَالَ مَا أَمَرَنَا بِهِ كَانُوا ظَالِمِينَ، فَحَسُنَ أَمْرُ اللَّهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُخْبِرُ بِمَا لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْمَلِكِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ سُوءُ أَدَبٍ، فَنَحْنُ مَا احْتَجْنَا إِلَّا إِلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ حَيْثُ أَمَرَنَا اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِمْ بَيَانًا لِحُسْنِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي وَقْتِنَا هَذَا أَوْ يَبْقَوْنَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِنَّ فِيهَا لُوطًا إِشْفَاقًا عَلَيْهِ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ قَوْمًا وَفِيهِمْ رَسُولُهُ، فَقَالَ تَعَجُّبًا إِنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَكَيْفَ يُهْلَكُونَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بمن فيها، يعني تعلم أَنَّ فِيهِمْ لُوطًا فَلَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ وَنُهْلِكُ الْبَاقِينَ، وهاهنا لَطِيفَةٌ: وَهُوَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانُوا أَهْلَ الْخَيْرِ، أَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ كَانَ يَزِيدُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا. أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فلما سمع قوله الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا أَظْهَرَ الْإِشْفَاقَ عَلَى لُوطٍ وَنَسِيَ نَفْسَهُ وَمَا بَشَّرُوهُ وَلَمْ يُظْهِرْ بِهَا فَرَحًا، وَقَالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: ٣٢] ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ زَادُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا إِنَّكَ ذَكَرْتَ لُوطًا وَحْدَهُ وَنَحْنُ نُنْجِيهِ وَنُنْجِي مَعَهُ أَهْلَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا من الأهل امرأته، وقالوا: إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أَيْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْغَابِرِ فِي الْمُهْلَكِ وَجْهَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَابِرَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْمَاضِي، وَفِي الْبَاقِي يُقَالُ فِيمَا غَبَرَ مِنَ الزَّمَانِ أَيْ فِيمَا مَضَى وَيُقَالُ الْفِعْلُ مَاضٍ وَغَابِرٌ أَيْ بَاقٍ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ نَقُولُ إِنَّ ذِكْرَ الظَّالِمِينَ سبق في قولهم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ لُوطٍ بِتَذْكِيرِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِنَّهَا/ مِنَ الْغَابِرِينَ أَيِ الْمَاضِي ذِكْرُهُمْ لَا مِنَ الَّذِينَ نُنْجِي مِنْهُمْ، أَوْ نَقُولُ الْمُهْلَكُ يَفْنَى وَيَمْضِي زَمَانُهُ وَالنَّاجِي هُوَ الْبَاقِي فَقَالُوا إِنَّهَا مِنَ الْغَابِرِينَ أَيْ مِنَ الرَّائِحِينَ الْمَاضِينَ لَا مِنَ الْبَاقِينَ الْمُسْتَمِرِّينَ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ لَمَّا قَضَى اللَّهُ عَلَى الْقَوْمِ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ الْكُلُّ فِي الْهَلَاكِ إِلَّا مَنْ نُنْجِي مِنْهُ فَقَالُوا إِنَّا نُنْجِي لُوطًا وَأَهْلَهُ، وَأَمَّا امْرَأَتُهُ فَهِيَ مِنَ الباقين في الهلاك. ثم قال تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>