للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ الْمُشْرِكِينَ وَنَفَعَ مَنِ انْتَفَعَ وَحَصَلَ الْيَأْسُ مِمَّنِ امْتَنَعَ بَيَّنَ طَرِيقَةَ إِرْشَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تُجَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا إِذَا ظَلَمُوا وَحَارَبُوا، أَيْ إِذَا ظَلَمُوا زَائِدًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَفِيهِ مَعْنًى أَلْطَفُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكَ جَاءَ بِالْمُنْكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُجَادَلَ بِالْأَخْشَنِ وَيُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ مَذْهَبِهِ وَتَوْهِينِ شُبَهِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: ١٨] وقال: لَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَجَاءُوا بِكُلِّ حَسَنٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَحَّدُوا وَآمَنُوا بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْحَشْرِ، فَلِمُقَابَلَةِ إِحْسَانِهِمْ يُجَادَلُونَ أَوَّلًا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضَّلَالِ آبَاؤُهُمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا تَبْيِينٌ لَهُ حُسْنٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَّا الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْهُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَلَدِ لِلَّهِ وَالْقَوْلِ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْهُمْ فِي الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ فَهُمُ الظَّالِمُونَ، لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، فَيُجَادَلُونَ بِالْأَخْشَنِ مِنْ تَهْجِينِ مَقَالَتِهِمْ وَتَبْيِينِ جَهَالَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَحْسَنَ فَقَدَّمَ مَحَاسِنَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُ مَا قَالَهُ لَكِنَّهُ بَيَّنَ رِسَالَتِي فِي كُتُبِكُمْ فَهُوَ دَلِيلٌ مُضِيءٌ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ دَلِيلًا قِيَاسِيًّا فَقَالَ:

وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يَعْنِي كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ وَهَذَا قِيَاسٌ، ثُمَّ قَالَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ لِوُجُودِ النَّصِّ وَمِنْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ/ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الذين سبقوا محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ زَمَانًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: هؤُلاءِ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْلَى، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين هاهنا، إِذْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر، وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَحْسَنِ مِنَ الْجِدَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَبِقَوْلِهِ: وَمِنْ هؤُلاءِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا آتَى الْكِتَابَ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الأنعام: ٨٩] وقال: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء: ١٦٣] وَقَالَ: آتانِيَ الْكِتابَ [مَرْيَمَ:

٣٠] وَإِذَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ آمَنُوا بِكُلِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا بِمَا قَالُوا بِهِ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَاثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَعَهُ أَوْ عَدَدًا قَلِيلًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:

وَمِنْ هؤُلاءِ غَيْرَ الْمَذْكُورِينَ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ مَخْرَجُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَسَّمَ الْقَوْمَ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُشْرِكِينَ وَتَكَلَّمَ فِيهِمْ وَفَرَغَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُوَ بُعْدٌ فِي بَيَانِ أَمْرِهِمْ، وَالْوَقْتُ وَقْتُ جَرَيَانِ ذِكْرِهِمْ، فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ هُمْ فِي وَصْفِهِمْ، وَإِذَا قَالَ أُولَئِكَ يَكُونُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ وَتَحَقَّقَ أَمْرُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْجِدَالُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>