للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ، وَلِأَنَّ مَسْئُولَهُمْ كَانَ الْعَذَابَ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنَّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً أَيِ الْأَجَلُ، لِأَنَّ الْآتِيَ بَغْتَةً هُوَ الْأَجَلُ وَأَمَّا الْعَذَابُ بَعْدَ الْأَجَلِ يَكُونُ مُعَايَنَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي كَوْنِ الْعَذَابِ أَوِ الْأَجَلِ آتِيًا بَغْتَةً حِكْمَةً، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقْتُهُ مَعْلُومًا، لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَتَّكِلُ عَلَى بُعْدِهِ وَعِلْمِهِ بِوَقْتِهِ فَيَفْسُقُ وَيَفْجُرُ مُعْتَمِدًا عَلَى التَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَأْكِيدُ مَعْنَى قَوْلِهِ بَغْتَةً كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَتَيْتُهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ، فَقَوْلُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَكَّدَ مَعْنَى الْغَفْلَةِ وَالثَّانِي: هُوَ كَلَامٌ/ يُفِيدُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً، وَهِيَ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ هَذَا الْأَمْرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ العذاب لا يأتيهم أصلا. ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٤]]

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤)

ذُكِرَ هَذَا لِلتَّعَجُّبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ تُوُعِّدَ بِأَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ يَسِيرُ كَلَطْمَةٍ أَوْ لَكْمَةٍ، فَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْجَلَدَ وَيَقُولُ بِاسْمِ اللَّهِ هَاتِ، وَأَمَّا مَنْ تُوُعِّدَ بِإِغْرَاقٍ أَوْ إِحْرَاقٍ وَيَقْطَعُ بِأَنَّ الْمُتَوَعِّدَ قَادِرٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَاتِ ما تتوعدني به، فقال هاهنا يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَالْعَذَابُ بِنَارِ جَهَنَّمَ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فقوله:

يَسْتَعْجِلُونَكَ أَوَّلًا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ وَثَانِيًا تَعَجُّبٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ ذكر كيفية إحاطة جهنم. فقال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٥]]

يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ] وفيه مسألتان:

الْأُولَى: لِمَ خَصَّ الْجَانِبَيْنِ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ وَخَلْفَ وَقُدَّامَ؟ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ نَارُ جَهَنَّمَ عَنْ نَارِ الدُّنْيَا وَنَارُ الدُّنْيَا تُحِيطُ بِالْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّ مَنْ دَخَلَهَا تَكُونُ الشُّعْلَةُ خَلْفَهُ وَقُدَّامَهُ وَيَمِينَهُ وَيَسَارَهُ وَأَمَّا النَّارُ مِنْ فَوْقُ فَلَا تنزل وإنما تصعد من أسف فِي الْعَادَةِ الْعَاجِلَةِ وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ لَا تَبْقَى الشُّعْلَةُ الَّتِي تَحْتَ الْقَدَمِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ تَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ وَلَا تَنْطَفِئُ بِالدَّوْسِ مَوْضِعِ الْقَدَمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ، وَلَا قَالَ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، بَلْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَحْتَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ ذِكْرِ فَوْقُ، فَنَقُولُ لِأَنَّ نُزُولَ النَّارِ مِنْ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ سَمْتِ الرُّءُوسِ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ عَجِيبٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَخُصَّهُ بِالرَّأْسِ، وَأَمَّا بَقَاءُ النَّارِ تَحْتَ الْقَدَمِ فَحَسْبُ عَجِيبٌ، وَإِلَّا فَمِنْ جَوَانِبِ الْقَدَمِ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ شُعَلٌ وَهِيَ تَحْتُ فَذَكَرَ الْعَجِيبَ وَهُوَ مَا تَحْتَ الْأَرْجُلِ حَيْثُ لَمْ يَنْطِقْ بِالدَّوْسِ وَمَا فَوْقُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَمَّا بَيَّنَ عَذَابَ أَجْسَامِهِمْ بَيَّنَ عَذَابَ أَرْوَاحِهِمْ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيلِ وَالْإِهَانَةِ ذُوقُوا عَذَابَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَيْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِلْمُبَالَغَةِ بِطَرِيقِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّ عَمَلَهُمْ كَانَ سَبَبًا لِجَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، وهذا كثير النظير في الاستعمال. / ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٦]]

يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>