للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ذَكَرَ مَا يُعِينُ عَلَى التَّوَكُّلِ وَهُوَ بَيَانُ حَالِ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ، وَيَأْتِيهَا كُلُّ يَوْمٍ بِرِزْقٍ رَغَدٍ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَأَيِّنْ لُغَاتٌ أَرْبَعٌ [لَا] غَيْرُ هَذِهِ [وَ] كَائِنْ عَلَى وَزْنِ رَاعٍ وَكَأْيِنْ عَلَى وَزْنِ رَيْعٍ وَكَيْ عَلَى دَعْ وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا كَأَيِّنْ وَكَائِنْ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَأَيِّنْ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَأَيٍّ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ مَنْ وَمَا رُكِّبَتَا وَجُعِلَ الْمُرَكَّبُ بِمَعْنَى كَمْ، وَلَمْ تُكْتَبْ إِلَّا بِالنُّونِ لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْمُرَكَّبِ وَغَيْرِ الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّ كَأَيٍّ/ يُسْتَعْمَلُ غَيْرَ مُرَكَّبٍ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ يَكُونُ، فَقَدْ حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ وَيُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيِّ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يكون كأي مركبا، فإذا كان كأي هاهنا مُرَكَّبًا كُتِبَتْ بِالنُّونِ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا تُكْتَبُ مَعْدِيكَرِبَ وَبَعْلَبَكَّ مَوْصُولًا لِلْفَرْقِ.

وَكَمَا تُكْتَبُ ثَمَّةَ بِالْهَاءِ تَمْيِيزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثُمَّتْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مَعَ مِنْ إِلَّا نَادِرًا وَكَمْ يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مِنْ، يُقَالُ كَمْ رَجُلًا وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ، وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ وَكَأَيٍّ الَّتِي لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَأَيٍّ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ مِنْ بَعْدَهَا إِذْ لَا يُقَالُ رَأَيْتُ رَجُلًا لَا كَأَيٍّ مِنْ رَجُلٍ، وَالْمُرَكَّبَةُ بِمَعْنَى كَمْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا فَالْتُزِمَ لِلْفَرْقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قِيلَ: لَا تَحْمِلُ لِضَعْفِهَا وَقِيلَ هِيَ كَالْقُمَّلِ وَالْبُرْغُوثِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ لَا تَدَّخِرُ اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ رِزْقَهَا لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ فَكَذَلِكَ يَرْزُقُكُمْ فَتَوَكَّلُوا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الدَّوَابَّ بَلِ النَّبَاتُ فِي الصَّحْرَاءِ مُسَبَّبٌ وَالْحَيَوَانُ يَسْعَى إِلَيْهِ وَيَرْعَى، فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ نَظَرًا إِلَى الرِّزْقِ وَإِلَى الْمُرْتَزَقِ وَإِلَى مَجْمُوعِ الرِّزْقِ وَالْمُرْتَزَقِ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الرِّزْقِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقِ النَّبَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَيَوَانِ رِزْقٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ فَلِأَنَّ الِاغْتِذَاءَ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِابْتِلَاعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَشَبُّثِهِ بِالْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَشِيشُ عَظْمًا وَلَحْمًا وَشَحْمًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ فِيهِ جَاذِبَةً وَمَاسِكَةً وَهَاضِمَةً وَدَافِعَةً وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى وَبِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ الَّذِي يَرْزُقُهَا، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُرْتَزَقِ وَالرِّزْقِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يَهْدِ الْحَيَوَانَ إِلَى الْغِذَاءِ لِيَعْرِفَهُ مِنَ الشَّمِّ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ اغْتِذَاءٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا يَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْغِذَاءِ حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِهِ بِالشِّدَّةِ لِيَذُوقَ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الْبَعِيرُ لَا يَعْرِفُ الْخَمِيرَ وَلَا الشَّعِيرَ حَتَّى يَلْقَمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَيَعْرِفَهُ فَيَأْكُلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَيَوَانِ فِيمَا يُوجِبُ التَّوَكُّلَ وَالْحَيَوَانُ رِزْقُهُ لَا يُتَعَرَّضُ إِلَيْهِ إِذَا أَكَلَ مِنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا وَتَرَكَ بَقِيَّةً يَجِدُهَا غَدًا، مَا مَدَّ إِلَيْهِ أَحَدٌ يَدًا، وَالْإِنْسَانُ إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهُ غَدًا شَيْءٌ؟

وَأَيْضًا حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَجْنَاسِ اللِّبَاسِ وَأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ وَأَيْضًا قُوتُ الْحَيَوَانِ مُهَيَّأٌ وَقُوتُ الْإِنْسَانِ يَحْتَاجُ إِلَى كَلَفٍ كَالزَّرْعِ وَالْحَصَادِ وَالطَّحْنِ وَالْخَبْزِ فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، فَنَقُولُ نَحْنُ لَا نَقُولُ إِنَّ الْجَمْعَ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الزَّارِعُ الْحَاصِدُ مُتَوَكِّلًا وَالرَّاكِعُ السَّاجِدُ غَيْرَ مُتَوَكِّلٍ، لِأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ يَكُونُ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ يَرْزُقُ مِنْ غَيْرِ زَرْعٍ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ لَا يَرْزُقُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ فَيَعْمَلُ وَقَلْبُهُ مَعَ اللَّهِ هُوَ مُتَوَكِّلٌ حَقَّ التَّوَكُّلِ، وَمَنْ يُصَلِّي وَقَلْبُهُ مَعَ مَا فِي يَدِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو هُوَ غَيْرُ مُتَوَكِّلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَاجَاتُ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ، فَنَقُولُ مَكَاسِبُهُ كَثِيرَةٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِيَدِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالنَّسَّاجِ وَبِرِجْلِهِ كَالسَّاعِي وَغَيْرِهِ، وَبِعَيْنِهِ كَالنَّاطُورِ وَبِلِسَانِهِ كَالْحَادِي وَالْمُنَادِي، وَبِفَهْمِهِ كَالْمُهَنْدِسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>