للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فخلق السموات وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِشَارَةٌ إِلَى إِيجَادِ الصِّفَاتِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ وغيرها، فكأنه ذكر من القبلين مِثَالَيْنِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يَعْنِي هُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، مَعَ أَنَّ مَنْ عُلِمَتْ عَظَمَتُهُ وَجَبَتْ خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا حَقَارَةَ فَوْقَ حَقَارَةِ الْجَمَادِ، لِأَنَّ الْجَمَادَ دُونَ الْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ دُونَ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ دون سكان السموات فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ بِعِبَادَاتِ أخس الموجودات. ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٦٢]]

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)

قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لَمَّا بَيَّنَ الْخَلْقَ ذَكَرَ الرِّزْقَ لِأَنَّ كَمَالَ الْخَلْقِ بِبَقَائِهِ وَبَقَاءَ الْإِنْسَانِ بِالرِّزْقِ، فَقَالَ الْمَعْبُودُ إِمَّا أَنْ يُعْبَدَ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا، وَإِمَّا لكونه على الشأن والله الذي خلق السموات عَلَى الشَّأْنِ جَلِيُّ الْبُرْهَانِ فَلَهُ الْعِبَادَةُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ وَلِيَّ الْإِحْسَانِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ الْخَلْقَ فَلَهُ الطَّوْلُ وَالْإِحْسَانُ وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ فَلَهُ الْعِبَادَةُ مِنْ هذا الوجه أيضا قوله: لِمَنْ يَشاءُ إشارة إِلَى كَمَالِ الْإِحْسَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَمَرَ الْخَازِنَ بِإِعْطَاءِ شَخْصٍ شَيْئًا، فَإِذَا أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ مَا يَسِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، لِأَنَّ الْآخِذَ يَقُولُ هَذَا لَيْسَ بِإِرَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ الْمَلِكِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا بِأَنْ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِهِ وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تُعْطِهِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ يَكُونُ لَهُ مِنَّةٌ جَلِيلَةٌ لَا قَلِيلَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الرِّزْقُ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ إِحْسَانٌ تَامٌّ يَسْتَوْجِبُ شُكْرًا تَامًّا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْدِرُ لَهُ أَيْ يُضَيِّقُ لَهُ إِنْ أَرَادَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: / إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ الْحَاجَاتِ وَمَقَادِيرَ الْأَرْزَاقِ وَفِي إِثْبَاتِ الْعِلْمِ هاهنا لَطَائِفُ إِحْدَاهَا: أَنَّ الرَّازِقَ الَّذِي هُوَ كَامِلُ الْمَشِيئَةِ إِذَا رَأَى عَبْدَهُ مُحْتَاجًا وَعَلِمَ جُوعَهُ لَا يُؤَخِّرُ عَنْهُ الرِّزْقَ، وَلَا يُؤَخِّرُ الرَّازِقُ الرِّزْقَ إِلَّا لِنُقْصَانٍ فِي نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ كَالْمَلِكِ إِذَا أَرَادَ الْإِطْعَامَ وَالطَّعَامُ لَا يَكُونُ بَعْدُ قَدِ اسْتَوَى، أَوْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِجُوعِ الْعَبِيدِ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ اسْتَوْعَبَ ذِكْرَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْإِلَهِ وَمَنْ أَنْكَرَهَا كَفَرَ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِهِ مَنْ يُنْكِرُهَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا لَا كَافِرًا، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْأَرْبَعَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلَهُ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى نُفُوذِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَقَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى شُمُولِ عِلْمِهِ، وَالْقَادِرُ الْمُرِيدُ الْعَالِمُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا حَيًّا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ذَكَرَ اعْتِرَافَهُمْ بِذَلِكَ فقال:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٦٣]]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)

يَعْنِي هَذَا سَبَبُ الرِّزْقِ وَمُوجِدُ السَّبَبِ مُوجِدُ الْمُسَبَّبِ، فَالرِّزْقُ مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكَلَامِ الْحَمْدُ لِذِكْرِ النِّعْمَةِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانِ

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَلَامًا مُتَّصِلًا، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَيَعْتَرِفُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ وَتَعْمَلُ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِكَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَيَحْمَدُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>