للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرَ اللَّهِ عَلَى نِعْمَةٍ هِيَ مِنَ اللَّهِ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ غَيْرِ اللَّهِ فَيَظْهَرُ تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم فقل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ظُهُورِ تَنَاقُضِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هَذَا التَّنَاقُضَ أَوْ فَسَادَ هَذَا التَّنَاقُضِ. ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٦٤]]

وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)

لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِ اللَّهِ هُوَ الْخَالِقَ وَكَوْنِهِ هُوَ الرَّزَّاقَ وَهُمْ يَتْرُكُونَ عِبَادَتَهُ وَلَا يَتْرُكُونَهَا إِلَّا لِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيَّنَ أَنَّ مَا يَمِيلُونَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِقَوْلِهِ: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وفي الآية مسائل:

الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، حَتَّى يَصِحَّ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؟ فَنَقُولُ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شُغُلٍ يُفْرَضُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الباطل للذة يسيرة زائلة فِيهِ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ فَالْإِقْبَالُ عَلَى الْبَاطِلِ لَعِبٌ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ لَهْوٌ، فَالدُّنْيَا لَعِبٌ أَيْ إِقْبَالٌ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَهْوٌ أَيْ إِعْرَاضٌ عَنِ الْحَقِّ الثَّانِي:

هُوَ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِشَيْءٍ يُرَجِّحُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ بِأَنْ يَقُولَ أُقَدِّمُ هَذَا وَذَلِكَ الْآخَرُ آتِي بِهِ بَعْدَهُ أَوْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْأَوَّلُ لَعِبٌ وَالثَّانِي لَهْوٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الشِّطْرَنْجَ وَالْحَمَامَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُمَا لَا تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي فِي الْعُرْفِ، وَالْعُودُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْتَارِ تُسَمَّى آلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّهَا تُلْهِي الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ الْحَالِيَّةِ، فَالدُّنْيَا لِلْبَعْضِ لَعِبٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُولُ بَعْدَ هَذَا الشُّغْلِ أَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ وَالْآخِرَةِ، وَلِلْبَعْضِ لَهْوٌ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْسَى الْآخِرَةَ بِالْكُلِّيَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: ٣٢] ولم يقل وما هذه الحياة وقال هاهنا: وَما هذِهِ فَنَقُولُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ هاهنا أَمْرُ الدُّنْيَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [البقرة: ١٦٤] فَقَالَ هَذِهِ وَالْمَذْكُورُ قَبْلَهَا هُنَاكَ الْآخِرَةُ حَيْثُ قال: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَامِ: ٣١] فَلَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي خَاطِرِهِمْ فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وقال هاهنا: إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ مِنْ قَبْلُ الْآخِرَةَ وَإِظْهَارَهُمْ لِلْحَسْرَةِ، فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَبْعُدُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي الدُّنْيَا بَلْ نفس الاشتغال بها فأخر الأبعد، وأما هاهنا لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ الدُّنْيَا وَهِيَ خَدَّاعَةٌ تَدْعُو النُّفُوسَ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا لِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْتَغِلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِغْرَاقٍ فِيهَا، وَلِعَاصِمٍ يعصمه فلا يشتغل بها أصلا، فكان هاهنا الِاسْتِغْرَاقُ أَقْرَبَ مِنْ عَدَمِهِ فَقَدَّمَ اللَّهْوَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هُنَاكَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الْأَنْعَامِ: ٣٢] وقال هاهنا: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ/ لَهِيَ الْحَيَوانُ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْحَالُ هُنَاكَ حَالَ إِظْهَارِ الْحَسْرَةِ مَا كَانَ الْمُكَلَّفُ يَحْتَاجُ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ ولما كان هاهنا الْحَالُ حَالَ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا احْتَاجَ إِلَى رَادِعٍ قَوِيٍّ فَقَالَ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ فَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا هَذَا خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ هَذَا تَرْجِيحًا فَحَسْبُ، وَلَوْ قَالَ هذا جيد

<<  <  ج: ص:  >  >>