للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سُبْحَانَهُ نِعَمٌ عَلَى الْعَبِيدِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعُقُولُ قَاصِرَةً عَنْ تَعْدِيدِ مَا فِي أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ، فَصَحَّ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتِ النِّعَمُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَمَا لَا يَتَنَاهَى لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَيْفَ أَمَرَ بِتَذَكُّرِهَا فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ/ عَلَيْكُمْ وَالْجَوَابُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ بِحَسَبِ الْأَجْنَاسِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي التَّذْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالطَّاعَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عَلَى إِيصَالِ النِّعْمَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِحَمْدِ الْحَامِدِينَ. وَلِهَذَا قَالَ فِي ذَمِّ الْأَصْنَامِ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٢، ٧٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الْفُرْقَانِ: ٥٥] وَقَالَ:

أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى [يُونُسَ: ٣٥] . الْفَرْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبِيدِهِ هُوَ أَنْ خَلَقَهُمْ أَحْيَاءً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٨، ٢٩] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّعَمِ الْحَيَاةُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلَ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَيَاةَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهَا سَائِرَ النِّعَمِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَيَاةِ الدُّنْيَا حَيَاةُ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابُ. وَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ قِسْمَانِ مُنْتَفِعٌ وَمُنْتَفَعٌ بِهِ، هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا خَلَقَ الْمَنَافِعَ خَلَقَ الْمَضَارَّ وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا سَمَّى نَفْسَهُ «النَّافِعَ الضَّارَّ» وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَنِعْمَةِ الدِّينِ، وَسَوَّى بَيْنِ الْجَمِيعِ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، أَمَّا فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ فَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ وَالَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقُدْرَةِ إِذْ لَوْ قَدَرَ عَلَى لُطْفٍ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْمُكَلَّفِ لَبَقِيَ عُذْرُ الْمُكَلَّفِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ خَاصَّةً لِأَنَّ عِنْدَهُمْ يَجِبُ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجِبُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إن الله تعالى خلق الكافر للنار والعذاب الْآخِرَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ النِّعَمُ الْقَلِيلَةُ فِي الدُّنْيَا لَمَّا كَانَتْ مُؤَدِّيَةً إِلَى الضَّرَرِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِعْمَةً عَلَى الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ السُّمَّ فِي الْحَلْوَى لَمْ يَعُدَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى نِعْمَةً لَمَّا كَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٨] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يُنْعِمْ عَلَى الْكَافِرِ بِنِعْمَةِ الدِّينِ فَلَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ وَيَدُلُّ عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: ٢١، ٢٢] فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ طَاعَتُهُ لِمَكَانِ هَذِهِ النِّعَمِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ. ثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: ٢٨] إِلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَشَرْحِ النِّعَمِ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ لَمَا صَحَّ ذلك. وثالثها: قوله: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ٤٧] وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى الْكَافِرِ إِذِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ/ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إلى قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٥٣] . وَكُلُّ ذَلِكَ