للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا بَيَّنَ أَنَّ مُجَادَلَتَهُمْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَهِيَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ بِكَلَامِ آبَائِهِمْ، وَبَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ الْعُلَمَاءِ بَوْنٌ عَظِيمٌ فَكَيْفَ مَا بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الْجُهَلَاءِ ثُمَّ إن هاهنا شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يَعْنِي نَتْرُكُ الْقَوْلَ النَّازِلَ مِنَ اللَّهِ وَنَتَّبِعُ الْفِعْلَ، وَالْقَوْلُ أَدَلُّ مِنَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا، وَهُمْ تَعَاطَوْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي اعْتِقَادِهِمْ وَالْقَوْلُ بَيِّنُ الدَّلَالَةِ، فَلَوْ سَمِعْنَا قَوْلَ قَائِلٍ افْعَلْ وَرَأَيْنَا فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ، لَكَانَ الْوَاجِبُ الْأَخْذَ بِالْقَوْلِ، فَكَيْفَ وَالْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ وَالْفِعْلُ مِنَ الْجُهَّالِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فِي الْإِنْكَارِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعَذَابِ وَاللَّهَ يَدْعُو إِلَى الثَّوَابِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُشْرِكِ وَالْمُجَادِلِ فِي اللَّهِ بَيَّنَ حَالَ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَسْلِمِ لِأَمْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مُحْسِنٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قوله تَعَالَى: مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْكَهْفِ: ٨٨] وَقَوْلِهِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَيْ تَمَسَّكَ بِحَبْلٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَتَرَقَّى بِسَبَبِهِ إِلَى أَعْلَى المقامات وفي الآية مسائل:

الأولى: قال هاهنا: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٢] : بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فعدى هاهنا بإلى وَهُنَاكَ بِاللَّامِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَسْلَمَ ... لِلَّهِ أَيْ جَعَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سَالِمًا أَيْ خَالِصًا/ وَالْوَجْهُ بِمَعْنَى النَّفْسِ وَالذَّاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يُسْلِمُ نَفْسَهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا يُسْلِمُ وَاحِدٌ مَتَاعًا إِلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ أَعْلَى دَرَجَةً مِمَّنْ يُسْلِمُ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ إِلَى لِلْغَايَةِ وَاللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ، يَقُولُ الْقَائِلُ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ أَيْ تَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ وَيُنْبِئُ هَذَا عَنْ عَدَمِ الْوُصُولِ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الْوُصُولِ وقوله أسلمت وجهي لك يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُنْبِئُ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَةِ وَقَطْعِهَا لِلْوُصُولِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْبَقَرَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى فَقَالَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١١١] ثُمَّ بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: ١١٢] أَيْ أَنْتُمْ مَعَ أَنَّكُمْ تَتْرُكُونَ اللَّهَ لِلدُّنْيَا وَتُوَلُّونَ عَنْهُ لِلْبَاطِلِ وَتَشْتَرُونَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا تَدْخُلُونَ [النَّارَ] وَمَنْ كَانَ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ لَا يَدْخُلُهَا، هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّقْضَ بِالصُّورَةِ الَّتِي هِيَ أَلْزَمُ أَوْلَى فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْمُخْلِصَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ إِلَّا اللَّهَ وَقَالَ:

أَنْتُمْ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا لَا يَدْخُلُهَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَذِبَهُمْ وَقَالَ: بَلَى وَبَيَّنَ أَنَّ لَهُ فَوْقَ الْجَنَّةِ دَرَجَةً وَهِيَ الْعِنْدِيَّةُ بِقَوْلِهِ:

فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأما هاهنا أَرَادَ وَعْدَ الْمُحْسِنِ بِالثَّوَابِ وَالْوُصُولِ إِلَى الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ فَوَعَدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَيَعُمَّ الْوَعْدُ وَهَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَوْثَقُ الْعُرَى جَانِبُ اللَّهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ هَالِكٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ بَاقٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يَعْنِي اسْتَمْسَكَ بِعُرْوَةٍ تُوصِلُهُ إِلَى اللَّهِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْحَالِ مَا إِلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>